القضية في قوّة الردع

لم يكن هدف حرب تموز في العام 2006 الوحيد تفكيك قوة المقاومة في حزب الله فقط، بل أظهرت الكتابات الإسرائيلية أن هدف الحرب الأساسي هو الوصول إلى دمشق واحتلالها من أجل فرض معادلة جديدة في المنطقة من خلال إتفاقيات استسلام تعقد خارج نطاق مفهوم "الأرض مقابل السلام".

منذ حرب تموز في العام 2006 لم يشهد لبنان هذا الحجم من الزيارات لمسؤولين أميركيين كبار

لم يعد خافياً على أحد أن سياسة الردع التي مارسها حزب الله تجاه إسرائيل خلال السنوات التسع عشرة الماضية، والجاهزية التي يبدي منها الحزب ما يبدي، ويخفي منها ما يخفي، هي ما منعت إسرائيل من القيام بحماقاتها حتى اليوم. وحديث الإسرائيلي المتكرّر حول وجود إيران في سوريا أو في لبنان أو على الحدود الفلسطينية- السورية في الجولان يقع ضمن نطاق المحاولات العبرية لتبرير الإعتداءات التي يقوم بها اليوم في سوريا من خلال وضعها ضمن إطار قوة الردع للمحافظة على وجوده. وبالتالي فإن زيارات المسؤولين الأوروبيين والأميركيين إلى لبنان طوال شهر آذار/مارس، كانت من أجل ضمان عدم قيام حزب الله بعمليات ضد منصات البترول التي سينشئها الإسرائيلي، والتي يعتبرها حقاً له أينما أقامها وإن كانت ضمن المنطقة الإقتصادية الخالصة للبنان. واليوم وبعد تكشّف ما تخفيه الإدارة الأميركية حول الجولان تتّضح أكثر الحدود التي كان يناور عليها هؤلاء من أجل ضمان حصص أكبر لإسرائيل في الأراضي العربية، مع ضمان توفير الحماية الأميركية لإسرائيل.

ويبدو أن الإسرائيلي في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعيش حالة من الإنتعاش لم يعرفها منذ السادس من حزيران من العام 1967، حيث لا رادع ولا راد له. ومنذ حرب تموز في العام 2006 لم يشهد لبنان هذا الحجم من الزيارات لمسؤولين أميركيين كبار. إذ يظن الإسرائيلي في عهد ترامب أنه يستطيع أن يمرّر القرارات التي يرغب بتمريرها بحماية أميركية، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل حتى على الصعيد السياسي وقد تخطّى هذا الدعم كل الحدود التي تحكمها العلاقات الدولية من أجل تحقيق الهدف الوحيد الذي يسعى نحوه الطرفان، ألا وهو أمن إسرائيل، في حين أنه اليوم يعيش واقعاً مختلفاً عما كان عليه الحال في ظل تنامي قوى المقاومة وبشكل ممنهج.
وبالنظر خلفاً، لم يكن هدف حرب تموز في العام 2006 الوحيد تفكيك قوة المقاومة في حزب الله فقط، بل أظهرت الكتابات الإسرائيلية أن هدف الحرب الأساسي هو الوصول إلى دمشق واحتلالها من أجل فرض معادلة جديدة في المنطقة من خلال إتفاقيات استسلام تعقد خارج نطاق مفهوم "الأرض مقابل السلام". ومحاولة الإسرائيلي، آنذاك فشلت في إثبات قدرته على اجتياح الجنوب وفرض شروطه على حزب الله وعلى من يدعمه وبخاصة سوريا. وتبدّلت نتائج الحرب لصالح الحليفين، المقاومة في لبنان وسوريا، سياسياً وإستراتيجياً. والجدير ذكره هنا، أن المحاولة الأميركية- الإسرائيلية في 2006 ليست الأولى، بل سبقتها محاولة اجتياح 1982، والتي حاولت من خلالها إسرائيل الوصول إلى دمشق، ولكن مع فارق بسيط، هو عدم مجاهرة الولايات المتحدة الأميركية بدعم إسرائيل في عدوانها على لبنان واحتلالها العاصمة بيروت.
وقد تناول العديد من الكتّاب والمحلليين الإسرائيليين الدور الذي تلعبه سوريا في دعم المقاومات المتعاقبة في لبنان. وبالتالي يمكن قراءة الحرب على سوريا في إطار ترسيخ قوّة الردع التي كان كل من الإسرائيلي والأميركي يسعى لإنجازها من خلال إلحاق الهزيمة بسوريا المقاومة التي نعرفها، ومن خلال تقسيمها إلى مجموعة من الدويلات الطائفية المتجانسة مع الوجود الصهيوني، اليهودي في فلسطين. ولكن ما آلت إليه الأحداث وذهاب حزب الله ليقاتل إلى جانب الجيش العربي السوري، وتطوّر مستوى الدعم الإيراني والروسي في سوريا، تحطّم على أعتابه الحلم بإنشاء قوة الردع المنشودة إسرائيلياً من خلال إلحاق الهزيمة بسوريا.
تحطّم الحلم لأن الإسرائيلي لم يستطع أن يحقّق أياً من أهدافه: أولاً، لم تؤد الحرب على الإرهاب إلى تفكك الحلف الثلاثي ما بين سوريا وإيران وحزب الله، بل ازدادت قوة وانضم العديد من الفصائل إلى القتال إلى جانب سوريا من لبنان ومن خارج لبنان. ثانياً، بعد الحرب التي دخلت عامها الثامن، اكتسبت الفصائل جميهعا خبرة لا يستهان بها في مجال حرب العصابات وأصبحت تؤلف قوات كوماندس لا يستهان بها، وكما يقول الصهيوني ماركوس في كتابه "الحرب الطويلة مع حزب الله"، فقد باتت قوات الحزب جيش كوماندس. الأمر نفسه ينطبق على قوات الجيش العربي السوري، التي تعدّ اليوم جيشاً نظامياً من قوات الكوماندس. إن الخبرة الكبيرة التي اكتسبها الحلفاء في سوريا، وفيما إذا جاء قرار الحرب ضد إسرائيل وحتى ضد أميركا، فإنها لن تنتهي بهزيمة المحور المقاوم بالتأكيد. وأخيراً، فقد فتحت الحرب على الإرهاب الباب على مصراعيه للتحالف ما بين إيران والعراق وسوريا، هذه الجبهة العريضة التي تمثل باب جهنم على الإسرائيلي. وما يقف اليوم أمام إنهاء طلعات الطيران الإسرائيلي فوق لبنان وسوريا سوى اتخاذ القرار، فالقرار السياسي السوري حتى اليوم مرتبط بأسلوب التهدئة وضبط النفس الذي يحاول أن يلعبه الروسي من أجل إيجاد حلول سياسية.
كان المرجو من الحرب الكونية التي شنّت على سوريا إضعاف الإرادة لدى الشعب العربي مجتمعاً، وليس إضعاف المقاومة في فلسطين ولبنان. ولكن اليوم باتت المقاومة في فلسطين أقوى، وذات تسليح قادر على منع الإسرائيلي من القيام بأيّ اجتياح غبي لغزّة المحاصرة، وتجربة اجتياح غزّة في العام 2014 ما تزال ماثلة أمام أعينه. والتصريحات اليومية الإسرائيلية التي نسمعها لا تخرج عن إطار البحث عن قوّة الردع التي يمكن أن تحمي المستعمرين في المستوطنات والتي باتت صواريخ المقاومة تطالها وصولاً إلى تل أبيب، خصوصاً بعد فشل القبة الحديدية الإسرائيلية في صدّها.
فإرادة القتال والصمود كانت وما تزال لدى فصائل المقاومة الفلسطينية ولدى الشعب الفلسطيني، الذي يعيش الحصار ليس في غزّة وحدها بل في الضفة الغربية وأراضي الـ 48، على حد سواء. وحتى النقاش الذي يدور بين الصهاينة في الإعلام محاولاً أن يحصر المقاومة الفلسطينية في جهة واحدة هي حماس، وتهميش دور الفصائل المقاومة الأخرى في فلسطين، وجعلها تبدو في إطار ديني مسلم ضد اليهود، لم تعد موفّقة. فالمقاومة في فلسطين، تاريخياً، تضمّ كافة الفصائل وكافة الإتجاهات العقائدية. والفكر المقاوم المسلح لم يكن يوماً حكراً على جهة من دون أخرى. كما فشلت إسرائيل في استجرار العطف والدعم العالمي للوقوف إلى جانب الدولة العبرية، كجزء من لعبتها للوصول إلى دعم عالمي مطلق في تهجير وإبادة الشعب الفلسطيني.
اليوم في سوريا باتت مسألة الإطباق على القوى الإرهابية وإعلان النصر السوري، مسألة وقت. وهذه الحرب الطويلة على سوريا لم تؤثر على قدرة حزب الله في لبنان، بل زادتها قوّة، وزادت من عزيمة المقاومة بجميع فصائلها في فلسطين. والقدرة التي اكتسبها حزب الله في حرب العصابات، وكما يقول الجنرالات الإسرائيليون، أن حزب الله بات في نهاية التسعينات قوّة كوماندس لا يستهان بها ما دفع باسرائيل لتشكيل قوّة كوماندس تحت مسمّى "إيغوز أو النواة"، كجزء من لواء جولاني كما صرّح أميرام ليفن قائد قوّة الشمال آنذاك. واليوم ينظر إلى حزب الله على أنه جيش من الكوماندس، وبذا تصبح مسألة إيجاد قوّة الردع مع حزب الله مسألة ملحّة وأساسية، وهذا ما يُقلق اسرائيل فعلياً.