إسرائيل والانكفاء على الداخل

تواجه إسرائيل اليوم تحدّياً غير مسبوق في الصراع مع حزب الله، وخطراً مُحدِقاً يخلّ في توزان معادلة الصراع حسب توصيف نخبة العدو السياسية والإعلامية، يتمثّل في بناء مصانع الأسلحة الدقيقة التي تنتج سلاحاً كاسِراً للتوازن، وقد فعلت كافة الأدوات السياسية والدبلوماسية لتعطيله مع تقديرها بأن المصانع في طور البناء ولم تصل بعد إلى مرحلة الإنتاج.

تواجه إسرائيل اليوم تحدّياً غير مسبوق في الصراع مع حزب الله

بخطواتٍ دعائيةٍ واستعراضيةٍ عَمَدَ من خلالها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لتسويق قضية اكتشاف أنفاق مقاومة حزب الله على الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان، في محاولةٍ لاستعادة صوَر النصر المسلوبة قبل أسابيع على يد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزَّة.

يُدرِك رئيس حكومة الاحتلال بأن صورة النصر واستعادة الثقة لا تحمل أية رسائل أو معانٍ حقيقية للمقاومة اللبنانية، ولن تغيّر في مُعادلة المواجهة، فهي بكل تأكيد تستهدف الجمهور الإسرائيلي، وتسويق سياسي مُبكِر في الاستعداد لمرحلة الانتخابات الإسرائيلية؛ إن كانت مُبكرة أو على موعدها في نوفمبر من العام القادم. 

المُتابع للسلوك الإٍسرائيلي من تضخيم قضية أنفاق حزب الله، وتهويل ما كان سينتج منها من احتلالٍ لمنطقة الجليل، واستنفار الدبلوماسية الإسرائيلية وزيارة رئيس حكومة العدو بصحبة عددٍ كبيرٍ من السفراء الأجانب، والحديث عن الوقت المُستغرَق لإنجازها، يعي بأنها غير معنية بالتصعيد العسكري على الجبهة الشمالية في لبنان.

فالعدو لا يريد في المرحلة الحالية الذهاب باتجاه مواجهة شاملة في لبنان، ويعمل على قَضْم قُدرات المقاومة عبر الأدوات الاستخبارية والدبلوماسية، كما يعمل على تعطيلها بالضربات الموضعية خارج حدود لبنان، مع يقينه بأن خطواته لن توقِف تنامي قوّة حزب الله، ولن تؤثّر بصورةٍ فاعلةٍ في تحييد القدرات القتالية للحزب في أيّ صِدامٍ مباشرٍ بينهما.

استراتيجية الخطوط الحمر المُتّبعة من قِبَل العدو في مواجهة المقاومة في لبنان وسوريا، بمنع تعاظُم مُقدّرات الحزب العسكرية عبر نقل السلاح الكاسِر للتوازن من سوريا إلى لبنان، وبناء قواعد عسكرية لإيران في سوريا، وتفعيل الأنشطة العسكرية في منطقة الجولان كجبهةٍ ثالثةٍ بجانب حزب الله في لبنان، وحماس وفصائل المقاومة في قطاع غزَّة، لم تحقّق هذه الاستراتيجية أهدافها بعيدة المدى واقتصرت نجاحاتها على خطواتٍ تكتيكيةٍ محدودة.

تواجه إسرائيل اليوم تحدّياً غير مسبوق في الصراع مع حزب الله، وخطراً مُحدِقاً يخلّ في توزان معادلة الصراع حسب توصيف نخبة العدو السياسية والإعلامية، يتمثّل في بناء مصانع الأسلحة الدقيقة التي تنتج سلاحاً كاسِراً للتوازن، وقد فعلت كافة الأدوات السياسية والدبلوماسية لتعطيله مع تقديرها بأن المصانع في طور البناء ولم تصل بعد إلى مرحلة الإنتاج.

إلا أن التهديد الأخطر في المرحلة والذي يمثّل مُعضلة مُعقّدة للعدو؛ هو تغيير خطّة سير نقل السلاح إلى حزب الله عبر مطار بيروت بدلاً من دمشق، ما يضعه أمام خيارات مُكلِفة للتعامل معها، ففي السابق كان العدو يستثمر الأوضاع الميدانية في سوريا ويستهدف قوافل السلاح، أما اليوم فأية عملية استهداف تعني مواجهة مع الحزب قد تكون على غرار 2006 بل أشدّ فتكاً.

لم تكن إسرائيل بحاجةٍ إلى الرسالة الإعلامية من حزب الله، فهي تعي جيّداً بأن القوّة العسكرية للحزب قادرة على تعطيل المصالح الحيوية للاحتلال، أبرزها الملاحة الجوية والبحرية، وإمطار المدن المحتلة بمئات الصواريخ، وتعطيل الحياة العامة، وإن امتلك العدو ترسانة عسكرية وكثافة نارية قادرة على إحداث تدمير كبير في لبنان، إلا أنه يبقى مُكبّلاً أمام ردع المقاومة.

لم يعد قرار الحرب والمواجهة العسكرية سهلاً كما في السابق في عدوان 2006، والاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزَّة وخاصة عدوان 2014، فقد دخل مُحدّدان هامان في القرار الإسرائيلي لم يكونا في الماضي حاضرَين، وهما الجبهة الداخلية الإسرائيلية وتطوّر قدرة المقاومة في فلسطين ولبنان.

العقيدة العسكرية الإسرائيلية بُنيت على مبادئ الردع وحسم المعركة ونقلها إلى أرض العدو خارج حدودها، والحرب الخاطِفة أو القصيرة، إلا أن هذه المبادئ لم تعد قادرة على التعامُل مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وقد تمكّنت من نقل المعركة إلى عمق دولة الكيان الصهيوني ما دفعه إلى إدراج مبدأ الدفاع ضمن عقيدته.

في ظلّ الواقع الحالي فإن أيّ تفكير في مواجهة شاملة مع أيٍ من جبهتي الجنوب أو الشمال لن يكون حاضراً _ ولو مرحلياً_ حتى إنجاز الانتخابات الإسرائيلية، لأن أية مواجهة ستمسّ الجبهة الداخلية، ما سيؤثّر على حظوظ نتانياهو وكتلة اليمين بالفوز وتشكيل الحكومة، في تقديري ستواصل إسرائيل العمل على الجهد الاستخباري والدبلوماسي والضربات المحدودة من دون الوصول إلى مواجهةٍ شاملة.