فرنسا، مطالب اجتماعية ولكن..
ومن هنا تبدى تناقض حاد: أميركا الحمائية تريد اخضاع أوروبا أكثر فأكثر لتبعيتها كي لا تنحاز ولو جزئياً إلى منافسيها من القوى الصاعدة. وأوروبا تجد في هذه التحولات فرصة للافلات وتحقيق استقلاليتها. هو وضع قائم منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يكن انزال النورماندي في فهم ديغول هو نفسه في فهم روزفلت. الأول كان مرغماً ومضطراً للاستعانة بالأميركي لتحرير بلاده من النازي، والثاني أراد أن يحررها ليلحقها بدائرة هيمنته.
أفضل ما قرأته أو سمعته منذ اندلاع الأحداث في فرنسا قبل ثلاثة أسابيع هو عبارة لكاتب سوري لا أعرفه شخصياً هو نارام سرجون، حيث قال: لنقرأ هذه الأحداث من النافذة السورية. وهذا ما يلتقي مع قناعتي العميقة بأن التحليل السياسي في وسائل الإعلام التي تشكل دور قيادة الرأي العام، يصبح حالة استعراضية سفسطائية إذا لم يكن موجها إلى قراءة المصلحة الوطنية وقضايا الأمة في مآلات الأحداث وقراءة الانعكاسات الدولية على هذه المصلحة. كذلك فإن التغطية الإخبارية الميدانية الوصفية تكون مجانية إن لم تكن مبرمجة بدقة وعلم لإثارة توجه أو إيضاح توجه أو توجيه توجه ولا يحدثنا أحد بسذاجة عن حيادية وموضوعية وسائل الإعلام. إضافة إلى ملاحظة خاصة بالأحداث الأجنبية ومنها الأوروبية وهذه الأيام الفرنسية وهي أن وسائل الإعلام تلجأ عادة إلى مهاجرين عرب "مجنسين أو غير مجنسين"، وبعض هؤلاء لا يبني موقفه وبالتالي تحليله على أية رؤية تطال المصلحة الوطنية لدولنا وإنما يتطلع إلى مصالحه الخاصة الضيقة هناك، التي قد تلتقي وقد لا تلتقي مع مصلحة الأوطان والقضايا هنا.
صحيح أن فرنسا تعيش، كما سائر الدول الغربية أزمة ثلاثية الأبعاد: أزمة العولمة النيوليبرالية. وهي نظام قام منذ التسعين على ثلاث قوائم: الهيمنة الأحادية الأميركية، الاقتصاد النيوليبرالي المعولم، ومجتمع المعلومات الذي يترجم بسلطة وسائل الاتصال التي يقف على رأسها كارتل من سبع شركات. قلما شذت عن هيمنته مؤسسة. من هنا فإن هذه الأزمة التي تتبدى في أكثر من دولة أوروبية وأعنفها في فرنسا، بدأت بانحسار الأحادية الأميركية، وانتقلت إلى تفجر الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية. تفجر لم يحصل كنتجية للضغط المتغول على الناس، وإنما أيضاً من تضارب مصالح الشركات التي وصفها ايناسيو رامونيه عام 1990 بـ"سادة العالم الجدد".
واحد من أبرز ملامح العولمة هو ديكتاتورية السوق، ما وصفه روجيه غارودي بسلطة إله السوق. ولكن ماذا يحصل للسوق عندما تؤدي الخريطة الاقتصادية الناشئة إلى تعدد الآلهة؟ وتضارب مصالحها؟ عندما لا تعود العولمة تصب في صالح الدولة العظمى التي أنشأتها؟، ببساطة تأتي البراغماتية الأميركية برئيس كدونالد ترامب يعيد الولايات المتحدة إلى الحمائية الاقتصادية. ويضعها في مواجهة مباشرة وشرسة مع كل بؤرة منفعة اقتصادية ومن ثم سياسية. بؤر قد تشكل منافساً كما الصين أو روسيا وقد تشكل منافساً محتملاً كما أوروبا الموحدة وقد تشكل مجال هيمنة يعين على مواجهة المنافسين الآخرين كما هو حال العالم العربي.
ومن هنا تبدى تناقض حاد: أميركا الحمائية تريد اخضاع أوروبا أكثر فأكثر لتبعيتها كي لا تنحاز ولو جزئياً إلى منافسيها من القوى الصاعدة. وأوروبا تجد في هذه التحولات فرصة للافلات وتحقيق استقلاليتها. هو وضع قائم منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يكن انزال النورماندي في فهم ديغول هو نفسه في فهم روزفلت. الأول كان مرغماً ومضطراً للاستعانة بالأميركي لتحرير بلاده من النازي، والثاني أراد أن يحررها ليلحقها بدائرة هيمنته.
هكذا خرجت أوروبا المدمّاة من يالطا ملحقة إما بروسيا وإما بأميركا . غير أن ديغول ظل يحلم بالاستقلالية إلى أن انضم إليه في حلمه أديناور، فاتجها إلى المصلحة لقيادة هذه الاستقلالية الأوروبية. رؤى وخطوات كثيرة توجت عام 67 بتمرد ديغول على أميركا واللوبي اليهودي، فنزلت المظاهرات إلى الشوارع بوقود يسار يريد مشروعه وحلمه إلا أن كوهين بنديت عبر الحدود الألمانية ليقود الثورة إلى الاجهاض، إلى لا شيء، سوى استفتاء يودي بديغول الذي تحدث عن اللوبي. عام 1991 حاول جان بيير شفينمان التمرد على حرب الأميركي ضد العراق تحت ذريعة تحرير الكويت، فانتهى إلى الاستقالة وقضى اللوبي على مستقبله السياسي نهائياً. بعده حاول آلان جوبيه لعب لعبة الاستقلالية على طريق الإليزيه كوريث للديغولية ولجاك شيراك، فنزلت المظاهرات إلى الشوارع ومن ثم افتعلت ضده محاكمات مفبركة، فاضطر إلى الاستقالة وحرم من خوض الرئاسيات وهاجر إلى كندا ليعود بعد سنوات مطواعاً راضخاً.
حاول جاك شيراك بناء محور استقلالي يمتد من باريس إلى برلين شرودر إلى موسكو بوتين، وتجلى تمايزه من زيارة فلسطين إلى الموقف من احتلال العراق عام 2003، ظلّ يتمرد ويعاند ثم امتثل وخضع بثمن لبنان وسورية و1559. ورث دومينيك دوفيللوبان آلان جوبيه كوريث للديغولية الاستقلالية، من مجلس الأمن وخطاب التمايز الحاد عام2003 إلى وزارة الداخلية الى رئاسة الوزراء ، فنزلت المظاهرات الى الشوارع ولم تنته الا باقالته وافتعلت ضده قضية ومحاكمة لابعاده عن المعركة الرئاسية وفتح الطريق أمام ساركوزي. ساركوزي بدأ معركته بزيارة البيت الأبيض والإيباك، ثم بدأ رئاسته بدفن فكرة عناد الاستقلالية عبر قرار ادخال فرنسا إلى الأطلسي. وبمشروع الاتحاد لأجل المتوسط وإسرائيل قلبه، وانتهج نيوليبرالية اقتصادية متغولة لا تختلف عما فعله هولاند بعده وماكرون بعدهما. وفي كل ذلك كان التماهي بين اللوبي الأطلسي واللوبي اليهودي كاملاً.
هنا يبرز ملمح آخر من ملامح العولمة هو تماهي السلطة الاقتصادية مع السلطة السياسية، أما على نموذج أسرة بوش – ديك تشيني – رايس ، وأما على طريقة تصنيع اللوبيهات المالية والشركات لرئيس يخدمها من مثل ايمانويل ماكرون. وهنا تبرز بالتالي أزمة نهاية العولمة التي دشنها دونالد ترامب. فالرأسمالية الحمائية الانعزالية لا تعني تخلي ترامب عن ابقاء أوروبا تحت هيمنته، ولكنها تعني إمكانية تململ أوروبا للعودة إلى حلمها بالاستقلالية بعد ان أرهقتها التبعية الأميركية . من جهة أخرى ينشأ تضارب المصالح بين الشركات الأوروبية والشركات الأميركية المعولمة. ليصبح الضغط الأميركي على الأوروبية سبباً أساسياً من أسباب الأزمة الاقتصادية الفرنسية. بدءً من إلغاء صفقة طائرات البوينغ التي عقدت بين روحاني وباريس وصولاً إلى سحب توتال من إيران ومن ثم عدد من الشركات الفرنسية من مثل بيجو وغيرها. وانتقالاً إلى إلغاء دول الخليج صفقات متعددة مع فرنسا ربما كان آخرها شطب أحمد العسيري ، تلميذ سان سير، الذي حاول شراء قمر مراقبة اصطناعي من فرنسا.
ماكرون ذهب باتجاه روسيا بوتين وألمانيا ميركل، عودة إلى محور باريس - برلين - موسكو، محور يقود استقلالية أوروبية اقتصادية سياسية وعسكرية تصل حد الجيش الأوروبي المستقل. في مواجهة رئيس أميركي يطالب أوروبا يومياً برفع مساهماتها في الناتو والامتثال للعقوبات الاقتصادية في حين يرفع الضرائب على منتوجاتها بدءً من الحديد والصلب. باختصار يشلها اقتصادياً، شركات وحكومات.
لكن مشكلة ماكرون أنه يجد نفسه مضطراً لفتح معركته هذه مع ترامب، ولكن بجبهة داخلية تحولت إلى حطب يابس بفعل تغول الشركات واللوبي المالي التي يدين لها بوضعه. وبوضع اقتصادي يفاقمه اخضاع هذه الشركات للعقوبات الأميركية ولرفع الضرائب الجمركية وللمنافسة والتضييق. ويزداد الضغط حين تقوم المظاهرات الملونة بتخريب ما قيمته ثلاثة مليارات يورو في باريس. وترامب يصفق ويغرد.
ما يعنينا نحن في هذه المنطقة من العالم، أولاً: إن أية استقلالية تعدد من مراكز القوى والكتل في العالم تساعدنا على التحرك بينها، ثانياً: إن الأطلسي وتفاقم قوته يشكلان خطراً متنامياً علينا خاصة وأن لوبي التبعية الأطلسية في اوروبا ظل دائما ومنذ نهاية الحرب متماهيا كليا مع اللوبي اليهودي وإسرائيل. ثانياً: إن كل ما يخدم الأحادية الأميركية وهيمنة الترامبية على بعد عام من إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وفي عز تنفيذ صفقة القرن يضربنا في مقتل. الدول تقايض الدول مصالح بمصالح، فهل من عاقل يريد ألا يكون أمامه إلا خيار واحد. وثالثاً: ومرحلياً، إن انفكاك فرنسا من الخضوع الكامل لترامب يعني اقترابها أكثر من روسيا والصين وأيران، وبالتالي تحركها بشكل معقول أكثر فيما يخص قضايانا وهذا ما سيجر بالتالي ألمانيا وبعض أوروبا إلى المربع ذاته.