الإسلاميون بين ثورتين: مصر وإيران
لماذا نجحت التجربة الإيرانية في الوصول إلى السلطة بينما لم يتمكن إسلاميو مصر من المحافظة عليها؟ وهل من مستقبل للمشروع الإسلامي في مصر؟ أين مكامن القوة والضعف في كلتا التجربتين؟.
مرت أربعون عاماً على ثورة إيران ومرت ثماني سنوات على ثورة مصر في "الربيع العربي". وما بين الثورتين إمتد تاريخ طويل من الأحداث التي غيّرت وجه العالم العربي والإسلامي. إنتهت الحرب الباردة وانتصر الأفغان على الإتحاد السوفياتي وتحرّر لبنان وانتصر في حرب تموز كما انتصرت غزّة ودارت رحى حروب الخليج وانتقلت السلطة وسقطت أنظمة ما سمي بالربيع العربي.
ليس من اليسير على الباحثين مقارنة أبعاد الثورتين: الإيرانية التي أسقطت الشاه وثورة 25 يناير في مصر وتأثيراتها السياسية والإجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكننا سنحاول في هذه الورقة أن نفتح المثقف والقارئ العربي على بعض أوجه المقارنة التي تحتاج إلى الكثير من البحث والتمحيص والتأمّل.
لماذا نجحت التجربة الإيرانية في الوصول إلى السلطة بينما لم يتمكن إسلاميو مصر من المحافظة عليها؟ وهل من مستقبل للمشروع الإسلامي في مصر؟ أين مكامن القوة والضعف في كلتا التجربتين؟.
فشلت حركة 25 يناير في مواجهة العسكر الذي تمكّن من مفاصل مؤسّسات الدولة العميقة إعلامياً وأمنياً وإقتصادياً، ووجد حزب الحرية والعدالة صعوبات كبيرة في تأليف المعارضة الليبرالية والعلمانية والقومية. لقد اقتنع الإخوان متأخّرين بأهمية التوافق الوطني والتحالفات غير الإيديولوجية في تأسيس الإستقرار السياسي.
- أزمة الكاريزما "ثورة بلا زعيم":
إفتقدت ثورة 25 يناير للقيادة الكارزمية الواحدة التي يلتف حولها الشعب، والتي توافرت لثورة إيران التي قادها الخميني عالم الدين المنحدر من آل البيت. لقد تمكّن "السيّد الثائر" من قيادة النخبة السياسية بكافة تلاوينها وبفعالية افتقدها الربيع العربي. ورغم أن تاريخ إيران منذ ثورة المشروطة سنة 1906 رسخ مكانة وحصانة المراجع الدينيين إلا أن حركة الإخوان المسلمين افتقدت منذ الشهيد حسن البنا قيادة قوية قادرة متمتعة بمصداقية حقيقية في أوساط المثقفين والنخب السياسية والدينية المصرية.
لم تتمكن ثورة يناير من أن تجد قائدها الرمز، خصوصاً وأن التدخلات الخارجية التي يسّرها الإعلام والعالم الإفتراضي جعلت بعص القنوات تقود الثورات وبعض الشخصيات الإفتراضية تقود الحركة الجماهيرية. لكن يبدو أن طابع "القيادة الجماعية" الذي ميّز العقود الأخيرة من تنظيم الجماعة ونهج التعيين عن طريق توافقات القيادة التاريخية لم يسمح بصعود قادة جُدد.
في هذا السياق أراد الإخوان الخروج سريعاً من حال الثورة إلى الدولة، واتبعوا في ذلك منطق البحث عن التراضي الذي طالما أديرت به الجماعة داخلياً بدل منطق القرارات الثورية الحاسمة. في هذا السياق السياسي النخبوي الذي تحكّمت فيه العوامل الخارجية كثيراً تباعدت مساحة التلاقي بين عموم الثوار والإخوان بسرعة كبيرة.
من جهة أخرى، كان من الصعب على الإخوان المسلمين إقناع خصومهم القوميين والعلمانيين بمشروعهم الديمقراطي وسط ضجيج الشعارات الصريحة المهاجمة للقِيَم الديمقراطية والتي لم يستطع الإخوان السيطرة عليها بسبب هذا الفراغ القيادي، الذي يضمن انسجام القاعدة مع القيادة ويملك صاحبه القدرة على توجيهها والتأثير عليها، بمقابل ذلك لم تعان ثورة إيران من وسائل التواصل ومن تقارب العالم المفتوح، فيما حافظت الشعارات المدروسة بإحكام والتي أذاعها أنصار الخميني على مطالب النخبة وعلى مشاعر الجمهور.
- أزمة الخطاب "مجتمع ثائر .. مجتمع حائر":
كانت ثورة إيران منسجمة مع أنماط التديّن العام في المجتمع، ووفّر خطاب المفكّر علي شريعتي وأمثاله شعارات سياسية مساوقة للدين، لينخرط طلبة الحوزات والجامعات جنباً إلى جنب في الثورة من خلال خطاب لامس عمق الإنتماء القومي والديني في مجتمع "الثورة الحسينية".
مقابل هذا، راهن الإخوان المسلمون على التديّن "الوهّابي" الطارئ على المجتمع المصري، فيما حورب التصوّف وطُرقه داخل المجتمع بسرعة مُريبة، الأمر الذي أسهم في خلق قلق كبير داخل أوساط الثوار حول طبيعة المجتمع الديني المنشود من وراء هذه الثورة.
لقد افتقد الإخوان مرة أخرى لخطاب حسن البنا الجامِع بين الصوفية والسلفية في خطاب ديني مُنسجم ومُعتدل ومقبول إجتماعياً، بل ركّز المتعاطفون السلفيون مع الإخوان على توطيد مظاهر الحياة الإسلامية، وتناسوا عن قصد أو غير قصد أساس الوحدة الذي يضمن التغيير السلمي والسلس.
- أزمة التعامل مع الخارج "حكومة حاكمة أم حكومة محكومة":
فيما حدثت ثورة إيران على حين غرّة من رقابة العالم الغربي اللصيقة كما أثبتت ذلك وثائق الإستخبارات الأميركية المفرج عنها مؤخرا[1]، كانت ثورة 25 يناير ثورة علنية غير مخطّط لها تماماً وحصراً من طرف الإسلاميين.
لعب الضغط الخارجي دوراً كبيراً في التأثير على مجريات الصراع بين الثوار ونظام مبارك كما لعب العسكر دوراً محورياً في السيطرة على المسار الثوري. ثورة إيران كانت مفاجأة كبيرة كما تؤكد ذلك التقارير الأميركية حينها والتي بشّرت الشاه الأخير بطول السلامة، فيما قفزت القوى الإقليمية والقوى الكبرى على مفاصل الثورة المصرية حتى قبل بدئها.
اخترقت الخبرات الغربية عمل الثوار لتصنع زعاماتها الطارئة والسريعة وسط الشباب الغاضب وأثّرت القوى الإقليمية وعلى رأسها السعودية في قرار الإخوان المسلمين. لقد وفّر التحالف مع دول النفط الوهّابية جمهوراً سلفياً واسع التأثير في الإنتخابات.
بمقابل هذا أثّر السلفيون على خطاب الإخوان الديني وعلى موقفهم من المخالفين سواء كانوا صوفية أو مسيحيين أو علمانيين. وبرزت إلى العلن بدلاً من ذلك أشكال هجينة من سلوكات التسامح التي تزيد التوجّس بدل أن تقلّصه.
تبنّى القياديون القطبيون في الجماعة بحماسة كبيرة "الخطاب الطائفي" الذي اجتهدت وسائل الإعلام والدعاية الخاصة الموالية للعسكر ولنظام مبارك في توسيع الشرخ الناتج منه داخل ساحة الثوار.
لقد بدا مبكراً في وسط هذا المسار الثوري أن الإسلاميين ورفقاءهم من الثوار لا يرجمون الشيطان نفسه، وزادت السياسة الخارجية لحكومة الحرية والعدالة من توهين صورة الحكم الجديد أمام الداخل والخارج، كما مسّ الطابع الطائفي والحزبي من القناعة الدولية بفعالية الثوار وقدرتهم على قيادة الشعب المصري بكافة أطيافه.
بمقابل هذا، لازال الإسلاميون في مصر لم يعطوا كلمتهم الأخيرة خصوصاً حين عادوا إلى مجال القمع الذي طالما ألفوه. بالإضافة لهذايوفّر صعود النموذج التركي وإستمرار النظام الإيراني دافعا مهماً لإمكانيات نجاح عودة إسلاميي مصر إلى الحكم، الذين لا زالت تدعمهم جماهير الثوار داخل البلاد وخارجها بعد أن اكتشف المتحالفون مع العسكر وَهْم الإستبداد المتنّور الذي بشّرت به بروبغندا المنقلبين على ثورة يناير.