إردوغان وترامب والعشق الأبدي

لولا استمرار العشق الأميركي التركي لما التقى إردوغان مع ممثلي المنظمات اليهودية في نيويورك قبل أن يهاجم إسرائيل بيوم واحد، ولما تجرَّأ ترامب على أن يتجاهله وهو في نيويورك مُعلناً تضامنه مع السيسي ضد الإسلام السياسي، أي الإخوان المسلمين.

حُكيَ الكثير عن أسباب الاتفاق التركي- الأميركي الخاص بالمنطقة الآمِنة شرق الفرات واعتبره البعض ورقة سيُساوِم بها إردوغان كلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني حسن روحاني، فيما قال آخرون ومن بينهم نائب رئيس الوزراء التركي السابق عبداللطيف شنار (كان نائباً لإردوغان حتى2007) إن "الاتفاق جاء نتيجة حسابات إردوغان الخاصة بسوريا لأنه لا ولن يتخلّى عن واشنطن مهما فعلت ضد تركيا".
وصدق شنار في كلامه فقد تهرَّب إردوغان من الرد على الرئيس دونالد ترامب الذي لم يكتف بعدم استقباله له في نيويورك، بل دعاه إلى حفل العشاء الرسمي ووضع له كرسياً إلى جانب عدوّه اللدود الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي حظيَ بمودّة وحفاوة ترامب، ما دفع إردوغان إلى مُقاطعة الحفل.
كما نسيَ إردوغان تهديداته ووعيده بالتوغّل شرق الفرات قبل نهاية الشهر الجاري إذا ما رفضت واشنطن التعاون معه، الأمر الذي استبعده كثيرون على الرغم من استمرار الدعم الأميركي لوحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي الذي يقاتل الدولة التركية منذ 40 عاماً في ظلّ معلومات تتوقّع ضغوطاً أميركية على إردوغان لإجباره على مُصالحة هذا الحزب.
دفع كل ذلك عدداً من الجنرالات والدبلوماسيين الأتراك المُتقاعدين للحديث عن تناقُضات إردوغان في العلاقة مع واشنطن، التي يبدو واضحاً أنها تسعى إلى تقسيم سوريا. واستغرب هؤلاء موقف إردوغان الذي قال عنه الجنرال المُتقاعد خلدون صولماز تورك إنه "بمواقفه الحالية في سوريا لا يختلف في الهدف مع الأميركيين"، وهو ما أكَّد عليه شنار الذي "اعتبر العلاقة بين إردوغان والأميركيين علاقة عضوية لا يمكن أن تنقطع".
فإردوغان يُعدّ نفسه امتداداً للفكر القومي التركي المُتديِّن الذي كان يمثله عدنان مندرس (1950-1960) الذي ضمّ تركيا إلى حلف الأطلسي وحلف بغداد وتحالف مع إسرائيل وحارب التيار القومي العربي وجعل من تركيا خندقاً أمامياً لحماية مصالح الغرب في وجه الاتحاد السوفياتي والشيوعية.
بدوره لم يتأخّر إردوغان في إقامة علاقات مباشرة وغير مباشرة مع الأميركيين منذ أن كان رئيساً لبلدية إسطنبول (1994-1999). ثم طوَّر هذه العلاقات بعد تشكيل حزب "العدالة والتنمية" عام 2001، فوعد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بدعم الاحتلال الأميركي للعراق، إلا أنه فشل في إقناع 80 من أعضاء البرلمان عن حزبه والذين صوَّتوا ضد نشر القوات الأميركية في تركيا إبان الحرب على العراق.
لم يمنع ذلك الطرفان التركي والأميركي من الاستمرار في "المودَّة والمحبّة" على الرغم من غضب واشنطن على موقف البرلمان التركي، فأصبح إردوغان في حزيران/ يونيو2004 طرفاً أساسياً في مشروع الشرق الأوسط الكبير وحافظ على علاقاته "المُميَّزة" مع قيادات اللوبي اليهودي في أميركا ، فطلبت منه الأخيرة أن يزور إسرائيل. في 2 أيار/ مايو 2005 فعل إردوغان ذلك حيث التقى أرييل شارون في القدس المحتلة ليعود بعد ذلك إلى واشنطن حيث منحته منظمة (Anti Defamation League) اليهودية في حزيران/ يونيو وسام الشجاعة السياسية ولحقت بها منظمة (American Jewish Committee).
ربما لهذه الأسباب ردَّد الزعيم الإسلامي أربكان أكثر من مرة أن "الصهيونية العالمية هي التي أسَّست حزب العدالة والتنمية ودعمته منذ البداية".
واعتبر عبداللطيف شنار في أكثر من مقابلة إن "علاقات إردوغان بمنظمات اللوبي اليهودي وإسرائيل عنصر مهم لضمان كسب التأييد والدعم الأميركي له على صعيد السياستين الداخلية والخارجية"، الأمر الذي يُفسِّر، والقول لشنار، "الإنجازات الاقتصادية التي حقَّقها خلال الفترة 2003-2011 بفضل دعم المؤسّسات المالية الأميركية والعالمية التي فرضت عليه بيع ما قيمته 70 مليار دولار من مؤسّسات القطاع العام".
وكان "الربيع العربي" فرصة ذهبية أراد إردوغان أن يستغلّها من خلال تحالفه مع الأميركيين. ويعرف الجميع أنه لا حليف لهم سوى إسرائيل المُستفيد الأول والأخير من هذا الربيع الذي دمَّر سوريا والعراق وليبيا واليمن، ولو كانت هذه الدول في حربٍ مع إسرائيل لأزالتها عن الخارطة.
وأسقط الدعم الإيراني والروسي ورجال المقاومة حسابات إردوغان العقائدية والسياسية في سوريا، ما اضطره للمناورة عبر منصتيّ أستانا وسوشي، وهو يعتقد أن أوراق المعارضة السياسية والمُسلّحة ستكفيه لتحقيق ما تبقّى له من حسابات وصلت إلى نهاية الطريق المسدود في إدلب.
ولا يختلف الوضع كثيراً في شرق الفرات مع استمرار حسابات واشنطن الخاصة بالكيانين الإنفصاليين الكردي والعربي واللذين يشكّلان خطراً على تركيا إن لم تفكّر بمواجهة هذا الخطر عبر المُصالحة مع دمشق من دون إبطاء.
نقاط ضعف إردوغان باتت مكشوفة للجميع داخلياً وخارجياً، وهو الوحيد الذي لا يراها أو لا يريد أن يراها بسبب "عمى السلطة"، وإلا لما تحدَّث في الأمم المتحدة عن خطّته "لإسكان مليوني سوري في المنطقة الآمِنة شرق الفرات" والتي يريد لها أن تفصل بين كرد سوريا وتركيا بعد أن نسيَ تهديداته لأميركا، طالما أن العشق التركي للأميركيين يستمر أبدياً، وهذه المرة على حساب وحدة التراب السوري.
ولولا استمرار هذا العشق لما التقى إردوغان مع ممثلي المنظمات اليهودية في نيويورك قبل أن يهاجم إسرائيل بيوم واحد، ولما تجرَّأ ترامب على أن يتجاهله وهو في نيويورك مُعلناً تضامنه مع السيسي ضد الإسلام السياسي، أي الإخوان المسلمين، أشقاء إردوغان.
وما على إردوغان الآن إلا أن يُثبِت للجميع أنه الأقوى، وبإمكانه أن يتّخذ قرار الطلاق ويُبرهِن على عَظَمَة الأمّة التركية والدولة التركية وريثة الإمبراطورية العثمانية التي تأسَّست قبل 467 عاماً من استقلال أميركا، وهو يفتخر بتاريخها ويسعى إلى إحياء ذكرياتها التي تحتاج إلى مُعجزة لمَن يؤمنون بها!