عودة "الحركي"
ملامح الصحافي الفرنسي الذي يجري اللقاءات كانت تكتسي بعض العجب، وكان باستمرار يكرر السؤال حول الندم: هل أنت نادم على التعامل مع عدو وطنك؟
-
أوقفتني صديقتي صارخة بعصبية الفرنسيين: لا تجوز المساواة بين أية جريمة وجريمة الخيانة الوطنية
في العام 2004، قالت لي صديقتي الباريسية متحبّبة: هذه المرة، سأدعوكِ إلى مطعم بتّ أتردّد إليه كثيراً. يديره شاب لبناني وصل إلى فرنسا حديثاً. مواطنك. الشاب يهلّ مرحباً، وجديلته تتدلى على ظهره. يحمل لنا قائمة الطعام، ويقف منتظراً الطلب: "صديقتي لبنانية مثلك، وجنوبية أيضاً". الوجه الأسمر امتقع. الرجل استدار، وابتعد مسرعاً. انتظرنا دقائق ثم أتى نادل آخر. سألته دانيال عن صديقها، فقال لها إنه اضطرّ إلى الخروج. بعد أسبوع، زرتها ثانية، فقالت لي مستغربة إنه ترك العمل. غريب!
بعد حوالى شهرين، كان التلفزيون الفرنسي، القناة الثانية، يعرض شريطاً وثائقياً طويلاً (ساعة كاملة) عن اللاجئين اللبنانيين في "إسرائيل". يذهب إلى العائلات في بيوتها، إلى العاملين في أماكنهم، ويُختم بزيارة أنطوان لحد في البار الصغير الذي كان يمتلكه ويديره... يديره! عفواً.. يعمل فيه، لأنّ حجمه لا يسمح بموظّفين. يسأله الصحافي عما إذا كان قد قابل شارون بعد مجيئه، فيردّ بغضب هستيري: طلبت موعداً ثلاث مرات ولم يرد. لم أعد أريد.
لم يرد في كلام أحد من الذين قابلهم أي تعبير حنين إلى الوطن اللبناني، بل كان أكثر ما ركَّزوا عليه هو الشكوى من بعض الوعود الإسرائيلية التي لم تنفّذ، من مثل التأمين الصحي الشامل، أو السكن بمواصفات معينة، أو التعويضات المالية بالقدر الموعود، وبعضهم غادر إلى الولايات المتحدة والغرب ودول الخليج...
ملامح الصحافي الفرنسي الذي يجري اللقاءات كانت تكتسي بعض العجب، وكان باستمرار يكرر السؤال حول الندم: هل أنت نادم على التعامل مع عدو وطنك؟ واحد فقط من بين العشرات أجاب بالإيجاب، وآخر حاول تبرير موقفه. الباقون كلهم أصرّوا على عدم الندم، وهاجموا الدولة والمقاومة. ورداً على سؤال حول ما سيفعلونه إن عادوا. صرخت امرأة: سنعيد ما فعلناه سابقاً، وأيّدها جميع الحاضرين. والأقسى بينهم من اعترف بأنه تخلّى عن الجنسية اللبنانية واكتسب الإسرائيلية.
لو أنَّني قلت يوماً لصديقتي الفرنسية إنه سيأتي يوم يعود هؤلاء معفيين إلى لبنان، وربما يترشح أحدهم لرئاسة بلدية أو مجلس نيابي، أو يلتحق ابنه الذي تربى ودرس في "إسرائيل" بالأمن العام أو الجيش اللبناني أو حتى جهاز المخابرات، لاعتبرت أنني أهذي، وذكَّرتني بعار المتعاونين (collaborateurs) الفرنسيين مع الألمان أو حتى فيشي، أو على الأقل بـ"الحركي" الجزائريين، الذين تعاونوا مع الفرنسي وهربوا معه، فلم يعودوا يوماً إلى بلد الثورة المحررة، لكنني كنت سأوضح لها أن "الحركي" اللبنانيين يتمتعون بميزات لم ينعم بها أي خائن في التاريخ؛ أولها أنهم ينتمون إلى بلد الـ6 و6 مكرر، إلا أنها لن تفهم أحجية الأرقام، فأوضح لها أنه وطن قائم على أحجية التوازن الزئبقي بين طوائفه ومذاهبه الدينية. وبالتالي، فإن هؤلاء العملاء يمتلكون انتماءً آخر إلى غير الوطن الّذي خانوه، انتماء إلى طوائف سيكون من مصلحتها أن تعيد بضعة آلاف من الأصوات الانتخابيّة والمحازبين.
ثانيها أنهم ينتمون إلى وطن يستدعي فيه التوازن الطائفي المذكور العفو عن مجرمين من نوع آخر؛ مجرمين خانوا الوطن لصالح أصولية دينية مريضة تقع بغالبيتها في الضفة الأخرى من المحاصصة، وهؤلاء أيضاً لهم أصوات انتخابية.
وثالثها أن ذلك يقتضي أيضاً التوازن مع مروّجين خانوا المجتمع في روحه وجسده، لتزدهر المخدرات في بلد يزدهر فيه الجوع والفقر، لأسباب منها انعدام الزراعة، وهؤلاء أيضاً شريحة انتخابية.
أوقفتني صديقتي صارخة بعصبية الفرنسيين: لا تجوز المساواة بين أية جريمة وجريمة الخيانة الوطنية. أنت حقوقية! ألا تعرفين لماذا أسموها بالعظمى؟ هي الجريمة الوحيدة التي لا تحتمل العفو. هذا مبدأ عالمي دولي تاريخي!
استأذنتها لأكمل. الميزة الرابعة تنبع من هنا. سياسيو هذا الوطن مرتهنون لقوى معينة في هذا الحيز الدولي الذي تتحدثين عنه، وهذه القوى مرتهنة للوبيات المؤيدة لـ"إسرائيل" التي جربت مع لبنان سلاح المتعاونين، فلم يكفها للنجاح، وجربت معه سلاح الاحتلال، فانبثقت منذ يومه الأول مقاومة علمانية، عفوية، نادرة، أخرجتها من العاصمة، ثم تماسست، ثم تبعتها المقاومة الإسلامية، وألحقت بالجيش الذي لا يقهر أوّل هزيمة في تاريخه أخرجته من كامل لبنان مع عملائه.
وعادت لتنتقم بعد 6 سنوات، ففشلت، واكتشفت أن النخر من الداخل أفضل سلاح لا يخيب؛ النخر الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي... ويبدو أنَّ هذا الرهان سينجح. سيصل الفساد بالبلاد إلى محطة مأزق تمكّن الإسرائيلي ولوبياته من أن يفرضوا على هذا البلد كل ما لم تستطع الحرب فعله... قرروا أن ينخروه بكل شيء مروياً بالفساد، ما سيؤدي به إلى كل أشكال الانصياعات، بما فيها بيع الأرض والناس والكرامة والشرف الوطني.
(قلت لها كلّ هذا، ولكنّ خيالي لم يصل حد ابتداع قصة العفو الرسمي عن العملاء بعد تسليم جزار الخيام، ولو ثمناً لإرضاء الأميركي والإسرائيلي، لرفع السيف عن رقبة هذا أو ذاك، أو للقمة يتسوّلها هذا أو ذاك. لم أتخيل أن الحجة ستكون أن الدولة تخلَّت عنهم، وكأنها قدمت كل الرعاية لسناء محيدلي ولولا عبود وأحمد قصير وقوافل بعدهم!
لم يصل بي الخيال إلى أن أقول لها إن هذا العفو لن يطال شاباً اضطلع بنفسه بتعويض كل تخاذل العسكر والسياسيين والنواب - باستثناء بطلَين من خارج 6 و6 مكرر - وأنهى وحده مرحلة فيشي لبنان. هو لن يطال شاباً كان وحده بحجم لبنان، بل والأمة، اسمه حبيب الشرتوني، تُعاد محاكمته، ويعتبر مجرماً لا يشمله العفو... وستتم مساواته بإرهابي اعتدى على الجيش والناس، كي يتم حفظ التوازن.. أو لأن إدانته هي الوجه الآخر للعفو عن العملاء).
صاحت بي صديقتي: كفى! أنا أحبّك، ولا أريد أن أشعر بأنك ابنة هذه الغابة التي تسمّينها وطناً.