لودريان: ليبانومونيا بعد الإيجيبتومونيا
ربما تبدو استقالة وزير الخارجية اللبناني ناصيف حتي الحدث اللبناني الأهم في الأيام الأخيرة، غير أنَّها في حقيقة الأمر، لا تشكّل إلا واحداً من ارتدادات زيارة جان إيف لودريان إلى لبنان.
اتَّسمت الزيارة بالعجرفة الفرنسية في مخاطبة الرؤساء الثلاثة، والتي ردَّ عليها رئيس الوزراء اللبناني بشيء من احترام الذات، جعل وريث الانتداب الفرنسي يعبّر عن غضبه الشديد، قائلاً إنه لم يسمع مثلها من أي رئيس وزراء سابق، لكنَّ هذا الجو البراني في الحقيقة ليس إلا ستاراً للخلاف الحقيقي حول مهمة لودريان في لبنان، فمن هو الرجل؟ وما الذي كان يريده؟ ولماذا عاد غاضباً، فكان أوّل الارتدادات استقالة وزير الخارجية؟
عندما تولّى الرئيس إيمانويل ماكرون الرئاسة الفرنسية، شكَّل وزارة لم تتضمّن أيّ وزير سابق، باستثناء الوزير الوحيد جان إيف لودريان، الَّذي نقل من الدفاع إلى الخارجية، وكان التبرير واضحاً؛ لم يحتفظ ماكرون برجل الحزب الاشتراكي، وزير دفاع فرانسوا هولاند، وإنما بالرجل المعروف بوزير الصفقات؛ صفقات عادت على فرنسا خلال سنوات توليه الدفاع بعقود ومبالغ لم يصدقها الفرنسيون أنفسهم. 14 ملياراً خلال العام 2016 وحده. منفعة إذا تحقّقت أسقطت لدى الغربيين افتراقات اليمين واليسار، اللذين تعلو عليهما شركات الأسلحة والمبالغ المتدفّقة على الدولة. هكذا شاهدنا سيرجي داسو اليميني يصرّح بأن لودريان أفضل وزير دفاع حظيت به فرنسا.
كما رأينا صحيفة "لوفيغارو" اليمينية التي باتت مملوكة لداسو، وبالتالي تسخّر خطابها الإعلامي لغاياته التسويقية، تكيل له من المدائح ما لم تكله لسواه. وكتب محلّلها العسكري آلان بارليوت أنَّ نجاح لودريان يعود إلى شبكة العلاقات التي نسجها في الشرق الأوسط عموماً، ودول الخليج بشكل خاص، إذ زارها أكثر من 30 مرة لزراعة العلاقات الشخصية وتنميتها ورعايتها على طول الطريق، كما زار 64 بلداً، ليجعل من دفء العلاقات طريقاً لاستئناف مفاوضات حول صفقات التسلّح، كما حصل مع بيع 24 طائرة عسكرية من طراز "رافال" لمصر، بعد أن كانت بائرة في مخازن صناعتها طوال 15 عاماً، وبعد أن حاول ساركوزي بنفسه تسويقها وفشل، ما جعل الوزير يصرّح بأنه يشعر وكأنَّ فرنسا فازت في السباق الدولي للدرّاجات، ليلي ذلك عقد آخر ببيع مصر قمراً صناعياً عسكرياً بقيمة 660 مليون يورو.
وإذا كان الرّجل قد أمضى أكثر من نصف قرن في مناصب مهمَّة، أهمها وزير الدفاع ووزير الخارجية، فإنّ منصباً آخر يعطيه أهمية خاصة في الساحة الخليجية والمتوسطية، ولبنان من ضمنها، وهو "سكرتير دولة مكلّف بشؤون البحار" و"رئيس لمؤتمر البحرية الطرفية من أوروبا".
لم يأتِ هذا الدور من فراغ أيضاً، فهو الذي حقَّق لفرنسا الصفقة المعجزة عندما ظفر بصفقة بناء الأسطول البحري من الأسترالي "SEE 1000" بقيمة 40 مليار دولار لصالح "DCNS" الفرنسية، وهي فرع تصنيع السلاح العسكري لدى داسو، منتصراً بذلك على منافسة 3 شركات عالمية هي الأقوى في هذا المجال (TKMS الألمانية وKHI و MHI اليابانيتين). سُمي العقد بـ"عقد القرن"، وكانت غايته الأساسية دخول أستراليا على خط مواجهة الصين في المحيط الهندي، وعُرف أنَّ لودريان حصل عليه بدعم أميركي، إذ إنّ الصفقة تعثَّرت، ولكنَّها حسمت بعد زيارة سريعة قام بها إلى واشنطن.
وتحقّقت صفقة أخرى في السوق البحرية، هي بيع غواصات "ميسترال" لمصر بتمويل سعودي، إذ إن هذه السفن كانت قد أنشئت لحساب روسيا. وعندما صدرت العقوبات على موسكو، واضطرّت فرنسا إلى أن تخضع لها، وتلغي الصّفقة مع الروس، وتمتنع عن تسليم الغواصات، استطاع لودريان أن يقنع واشنطن بأن تضغط على السعودية لتموّل شراءها لمصر. وبهذا، وضعت في بحر آخر هو البحر الأحمر، وكانت جاهزة للانتقال إلى المتوسط لصالح المحور الأميركي - السعودي - الفرنسي – المصري، إذ أعلن بعدها عن التنسيق الأمني في البحر الأحمر، فماذا يريد الرجل من لبنان في المتوسط؟
الصفقات تكررت، وبمبالغ هائلة مع دول الخليج (20 مليار دولار خلال زيارة فرانسوا هولاند للسعودية في العام 2013، ومبالغ أخرى للإمارات وقطر والبحرين)، ولكن ما يهمّنا منها هو تلك الهبة السعودية الشهيرة للجيش اللبناني، التي جعلت ميشال سليمان ينسى أنه رئيس جمهورية، ويهتف: "تحيا المملكة العربية السعودية!"، ناسياً أيضاً أنه قائد جيش سابق، ويعرف أن هذه الهبة ليست للبنان، وإنما هي في الواقع هبة لمصانع الأسلحة الفرنسية، التي تبيّن في ما بعد أنها لن تعطي لبنان إلا أسلحة قديمة مستعملة، ليتدحرج الأمر في النهاية إلى عدم إعطائه شيئاً، اللهم إلا العمولات المخصّصة لمسؤوليه المبتهجين، وأننا لم نبلغ في ذلك حتى حدّ تمويل شراء طائرات لمصر.
وأوضحت وسائل الإعلام الخليجية يومها أنّ ذلك مكافأة لفرنسا على موقفها في مفاوضات جنيف حول الملف النووي الإيراني، إذ اعتبرت السعودية أن باريس كانت ناطقة باسمها في المؤتمر (والجميع يذكر مزايدة لوران فابيوس على الأميركيين في التشدد يومها). كما أنه محاولة لدعم لبنان في تحجيم حزب الله، وخصوصاً مع تصاعد العنف في سوريا.
المقابل الذي منحتهم إياه الرئاسة اللبنانية يومها هو إعلان بعبدا النأي بالنفس، ما يترجم مقولة أن صفقات التسلح إنما هي نتيجة علاقات وحسابات استراتيجية وسياسية، لكنها أيضاً مع رجل مثل لودريان تتحوَّل إلى إثارة عسكرية، فهو المعروف عنه في الأوساط الفرنسية بأنه عرّاب 4 حروب: الساحل الأفريقي - أفريقيا الوسطى - العراق – سوريا، ما جعل البعض يصفه بأنه وزير خارجية بنكهة دفاع أو وزير دفاع بنكهة علاقات خارجية.
هذه العلاقات - المعادلات لم تغب عن زيارة لودريان الأخيرة، فوراء الخطابات الإنشائية الكثيرة التي برعت في الحك على جرح اللبنانيين من الفساد والتدهور المعيشي، وأرادت التركيز على صندوق النقد الدولي كخيار وحيد، (رغم أن أحداً لم يرفضه، بل إنّ الرهان على مضمون شروطه)، كانت ترتسم المعالم الحقيقية التي ذُكرت صراحة في الزيارة، وإن لم يبرزها الإعلام كفاية، فقد أعلن الرجل أنه جاء بعد التشاور مع الأميركي والخليجي - أنه يدعم الحياد - يعيد نغمة النأي بالنفس - يطالب بترشيق القطاع العام - ولدى الرئيس نبيه بري، يتحدث عن توسيع مهام اليونيفيل، وترسيم الحدود البحرية، وأخيراً يؤشر إلى تهديد قواعد التعايش، ما يعني ضمناً تهديداً بالحرب الأهلية.
ثمة حملة إعلامية كبيرة سبقت الزيارة ورافقتها، ولعلَّ في هويتها وبرنامج خطابها الدليل الأكبر على حقيقة المطالب: من فرنسا، تصدَّرت "لوفيغارو" في مقالين لبنجامين بارت وجورج مالبرونو، وكلاهما معروف بمواقفه في لبنان وسوريا منذ عقدين على الأقل. وفي الصحافة العربية "الشرق الأوسط". وفي لبنان، ما يعرفه الجميع (حيث جاء اختيار ناصيف حتي للـ"MTV" قبل استقالته رسالة بحد ذاتها).
أما المضمون، فهو هو: حزب الله يحكم الحكومة، حكومة دياب فاشلة، حسان دياب رجل غير مرغوب فيه في الخليج، واستعراضات إنشائية طويلة تسهب في تصوير الوضع المأساوي اللبناني، وصولاً إلى عناوين شعارات: الانزلاق إلى الجحيم، الصوملة، الأفغنة (أفغانستان)، والحل: الحياد، تسليم السلاح، بيع الاستثمارات، ترسيم الحدود، وما يلي ذلك من منح عقود للشركات النفطية (و"توتال" على رأسها).
ولكنَّ الأكثر طرافة في هذا الخطاب هو التركيز على صداقة فرنسا للبنان ودعمها له، ما يعيدنا إلى بعض الصحافيين المصريين الَّذين فرحوا بالقول إنّ الصّفقات مع مصر هي نتيجة للعلاقات الشخصية الودية بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والوزير الفرنسي، منذ أن كان الأول وزير دفاع. إنَّ هذا الكلام لا يثير إلا الضحك لدى أي مواطن غربي يفهم أن المصالح لا تُباع على مائدة عشاء إلا لدى العرب البلهاء، وأن ما يدفع السعودية إلى تمويل صفقة بالمليارات، ليس الود القائم بين وزيرين، بل إن صحيفة مصرية معروفة ذهبت إلى القول إنَّ لودريان مصاب بـ"الإيجيبتومونيا" (Egyptomonia). لعلَّه المرض نفسه الذي أصاب نابوليون بونابرت، ولعلَّنا نسمع غداً عن الـ"ليبانومونيا".