مُتلازِمة حلب!

حلب ليست مُجرّد مدينة أو جغرافيا تشهد مواجهات عسكرية، وإنما هي ساحة تحتدم فيها صراعات مُركّبة ومُعقّدة، يتداخل فيها المحلي والإقليمي والعالمي. وما يمكن أن ندعوه بمتلازمة حلب (Aleppo Syndrome)، يتمثّل بصعوبة التوصّل إلى توافق بشأن المدينة، وتمركز الصراع السياسي والعسكري والإعلامي حولها، حتى بات تغيّر السيطرة من شارع إلى شارع أو من كتلة بناء إلى آخر، موضوعاً للتجاذبات السياسية من غرف الأخبار ووسائط الميديا إلى قاعات مجلس الأمن الدولي.

في منظور دمشق لـ "ُمتلازمة حلب"، أن المدينة مركزية، ولا يمكن التخلّي عنها أو تركها عُرضة للتهديد والدمار
في المنظور المعارض، استعادة الجيش للمدينة "ممنوعة" ما لم تكن مرتبطةً بتفاهُمات بين فواعل دولية معروفة، وأن بقاء عدد من أحيائها تحت سيطرة جماعات مُسلّحة، بعضها مُصنّف إرهابي حتى بالمعايير الأمريكية، هو أفضل من سيطرة الجيش السوري وحلفائه، وهذا أمر مفهوم لأن في ذلك إقرار بأولوية الدولة السورية ونظام الرئيس بشّار الأسد، وتسليم بقوة روسيا وإيران ودور حزب الله في المشهد الإقليمي والدولي.

وقد كشفت التطوّرات في حلب عن قراءات مُتعاضدة بين "جبهة النصرة" وباريس وواشنطن ولندن تجاه المشهد في المدينة وفي سورية ككل، وحجم التداخل أو التماهي العضوي بين الجماعات المسلّحة في سورية وبين أدوار ورهانات الأطراف المذكورة،  وليس من المتوقّع أن تنفكّ عرى التحالف بينها في وقت قريب.


شنّت واشنطن وحلفاؤها حملة سياسية وإعلامية هستيرية ضدّ تقدّم الجيش في شرق المدينة، وذلك من أجل منع دمشق وحلفائها من تحويل هذا الإنجاز العسكري إلى إنجاز سياسي؛ بل أن واشنطن وباريس ولندن واصلت اتهامها للجيش وحلفائه باستهداف المدنيين، فيما كذَّبَ المدنيون الفارُّون من مناطق سيطرة الجماعات المسلّحة في شرق المدينة إلى مناطق سيطرة الجيش في غربها تلك الحملات، لأن الخائف لا يلجأ إلى مَن يعدّه عدواً أو خصماً!


وفي مشهد حلب أو "مُتلازمتها" بُعدٌ يسعى لمنع موسكو من تحقيق إنجاز على صعيد مُكافحة الإرهاب وتحقيق التسويات والمصالحات واكتساب المكانة والصورة الإيجابية حول العالم، ومن الواضح أن عقيدة بوتين في السياسة الخارجية التي أعلنها في 1 كانون الأول/ ديمسبر الجاري ارتكزت في جانب منها على النجاحات في حلب، وهذا ما يُمكن قوله بشأن إيران التي تعمل أكثر مما تتحدّث، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حزب الله. ولا يغيب عن مُتلازمة حلب  دور إسرائيلي مُناهِض لتقدّم الجيش هناك، فهل يعقل أن تسكت إسرائيل عن إنجاز  يصنعه خصومها في حلب؟


في منظور دمشق لـ "ُمتلازمة حلب"، أن المدينة مركزية وهي العاصمة الثانية، ولا يمكن التخلّي عنها أو تركها عُرضة للتهديد والدمار، وأن الانتصار فيها ليس نهاية المطاف، فالأعداء لن يستسلموا بسهولة وسوف يواصلون رهانهم على إسقاط المدينة، كما أن الجيش يستعيد مدينة لا يزال ريفها تحت سيطرة جماعات مُسلّحة، وفيه أو/و على مقربة منه قوات وقواعد عسكرية تركية وأمريكية وفرنسية وجنود من تابعيّات أطلسية وغرف عمليات واستخبارات مُتعدّدة الجنسيات وهذا يعني أن المواجهة طويلة.


تقدُّم الجيش السوري في حلب يُعزّز منطق دمشق القائل: كلما اتّسعت سيطرة الدولة كلما كانت التسوية مُمكنة
في حلب، تواجه السردية السورية لحظة حاسمة، لأن استعادة شرق المدينة -على أهميته- يدفع الخصوم لإعادة إنتاج خطاب جنيف1 وقرار مجلس الأمن 2254 بغرض تفريع الانتصار العسكري من معناه، وهو ما سارع المبعوث الدولي دي مستورا لإعلانه (تصريحات 30 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي)، كما قامت إسرائيل بتذكير الجميع أنها حاضرة وأن لها كلمة في ما يجري، عندما قامت باعتداءات على مواقع في ريف دمشق (30 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي).


تقدُّم الجيش السوري في حلب يُعزّز منطق دمشق القائل: كلما اتّسعت سيطرة الدولة كلما كانت التسوية مُمكنة بل أن ذلك شرط شارط للتسوية، فيما يرى خصومها أن كل سيطرة للجيش السوري تمثّل عقبة أمام التسوية، بل تهديداً لرهاناتهم وأولوياتهم.  وقد دفع تقدُّم الجيش وحلفائه في شرق حلب العالم لأن يكون أكثر وضوحاً، فقد رمت واشنطن وحلفاؤها بكل ثقلهم للدفاع عن الجماعات المسلّحة في شرق المدينة، فيما أعلنت موسكو وحلفاؤها عن التزامها باستعادة حلب ومكافحة الإرهاب، وإذ يضع كل طرف مدينة حلب في مقدّمة أولوياته، فإن المدينة مُرشّحة لأن تحتل صدارة المشهد العالمي، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.