إمارة إدلب ومصير التفاهُم الروسي التركي؟

تُواجه التفاهُمات بين روسيا وتركيا حول الأزمة السورية تحدّيات كبيرة، ومع أن كلاً منهما يعلم مدى الحاجة للآخر، وحدود الثقة فيه، إلا أن العلاقة بينهما غير مُتكافئة، ومن الواضح أن موسكو اليوم أكثر قدرة على التحرّك في المشهد السوري، بقْدر أقل من الارتباط مع أنقرة، وهي أقدر على تحديد إيقاع العلاقات معها.

سوف تراقب روسيا وحلفاؤها مدى استعداد تركيا لمواجهة "جبهة النصرة" في إدلب
إن سيطرة "جبهة النصرة" على إدلب، والسهولة التي تمّت بها، وعدم قيام تركيا وحلفائها بأية ردّة فعل ضدّها، يُعزّز التقدير بأن الأمر تمّ بما يُشبه "التواطؤ" بين تركيا وحركة أحرار الشام من جهة، وجبهة النصرة من جهة أخرى. 

تُواجه التفاهُمات بين روسيا وتركيا حول الأزمة السورية تحدّيات كبيرة، ومع أن كلاً منهما يعلم مدى الحاجة للآخر، وحدود الثقة فيه، إلا أن العلاقة بينهما غير مُتكافئة، ومن الواضح أن موسكو اليوم أكثر قدرة على التحرّك في المشهد السوري، بقْدر أقل من الارتباط مع أنقرة، وهي أقدر على تحديد إيقاع العلاقات معها، وخاصةً أن موسكو أقامت عدّة تفاهمات حول مناطق التهدئة: التفاهُم مع واشنطن في جنوب سوريا، ومع السعودية والقاهرة في الغوطة بريف دمشق، وثمة مداولات مع واشنطن للتفاهُم حول التهدئة في ريف حمص الشمالي. 

عملت تركيا كل شيء ممكن من أجل "تحييد" الجماعات المسلّحة في إدلب عن هجمات الجيش السوري وحلفائه، وحتى التحالف الأميركي؛ وعلى الرغم من مشاركة تركيا في عملية أستانة، إلا أنها واصلت رعايتها وقيادتها للجماعات المسلّحة في إدلب وريفها وفي ريف حماه وحلب واللاذقية، وحاولت أن تقيم في المدينة نموذجاً جاذباً للحُكم، ولكنها فشلت في ذلك، ثم دخلت في تفاهُمات جعلت من إدلب منطقة استقطاب وتجميع للمسلّحين وعائلاتهم ممَن قضت المصالحات والمواجهات بانتقالهم أو انسحابهم إلى المدينة وريفها. ومعلوم أنها حاولت مراراً "تأهيل" جبهة النصرة لأن تكون القوة الرئيسة المعوّل عليها ضدّ دمشق.

عملت تركيا على إدراج إدلب في اتفاق مناطق التهدئة الأربع، وأعلنت عزمها على إدخال قواتها وجماعات موالية لها، وإقامة قواعد عسكرية في إدلب، وخاصة قاعدة استراتيجية في جبل عيسى، ثاني أعلى قمّة في سوريا، يمكنها من خلالها رصْد مساحات واسعة من محافظات حماة وحمص وحلب، فضلاً عن إدلب، والإشراف المشترك مع روسيا على نقاط التماس هناك، غير أن اجتماعات أستانة (4) لم تخرج بتفاهُم حول حدود المنطقة في إدلب، ودور تركيا فيها، وقال مندوب سوريا بشّار الجعفري إن تركيا حاولت ابتزاز  روسيا وإيران بهذا الخصوص. 

بدت تركيا أقل قدرة على مباشرة رهاناتها في إدلب وشمال سوريا، إذ حدثت تطوّرات رئيسة ضاغطة على الموقف التركي، أولها هو استعادة الجيش السوري وحلفاؤه زمام المبادرة في توسيع نطاق السيطرة في مختلف المناطق، وخاصة في شرق حلب وباتجاه البادية والحدود مع العراق؛ وثانيها هو المخاوف من تأثير معركة الرقة زيادة في قوة الكرد، ما دفع تركيا للتهديد باحتلال عفرين أو التضييق عليها؛ وثالثها هو تفاقُم الصراع بين الجماعات المسلّحة، مُتأثّراً بالنزاع الخليجي. 

حاولت تركيا الاستجابة للموقف بالعمل وفق مسارات متوازية، الأول هو الضغط والمساومة من أجل ترتيبات وجودها في إدلب، ولكنها لم تفلح في ذلك؛ والثاني هو العمل على استهداف الكيانية الكردية باحتلال عفرين أو التضييق عليها، وثمة تقديرات بأنها عرضت على الروس اتفاق "إدلب مقابل عفرين"، ولم تفلح في ذلك أيضاً؛ والثالث هو الإعداد لعملية "درع العاصي" بحشد الجماعات المسلّحة الموالية لها وإرسال قوات تركية إلى مناطق مختلفة، لضمان قدرتها على تهديد الوضع العسكري في حلب وإدلب في حال شهدت التفاهُمات مع روسيا وإيران انتكاسة ما، أو في حال شهدت علاقاتها مع الولايات المتحدة تطوّرات مناسبة. هنا قد يكون العمل على تغيير قواعد اللعبة، رهاناً مناسباً.

بالنسبة لروسيا، قاعدة التفاهُم مع تركيا لا تزال قائمة، وأساسها هو استجابة الأخيرة لأولوية مكافحة الإرهاب، واستمرار العمل معها ومع أطراف أخرى على التهدئة، والفصْل بين الجماعات المسلّحة التي تقبل بها وتنضوي في إطارها، وتلك الرافِضة لها، بحيث تكون الجماعات خارج اتفاقات التهدئة جماعات إرهابية يجب محاربتها.

سبق لتركيا وحلفائها أن اتّهموا روسيا بأن طائراتها وصواريخها لا تميّز  كثيراً بين "المُعتدلين" والإرهابيين، وها أن جبهة النصرة تقوم بما لم تقم به تركيا وغيرها، بشأن التمييز أو الفصل المطلوب على هذا الصعيد، وهذا عين ما تطلبه روسيا منذ دخولها على خط الأزمة السورية. ومع سيطرة تنظيم جبهة النصرة على إدلب لن يعود لدى تركيا وغيرها ذريعة في عدم استهدافه في إدلب. 

وقد سارعت قاعدة حميميم الروسية للإعلان أن "مصير مدينة إدلب السورية لن يكون مختلفاً عما حصل بالموصل في العراق في حال سيطرة تنظيم النصرة الإرهابي على كامل المنطقة"، وأضافت "سيكون للقوات الروسية دور مباشر في المعركة، كما كان في مدينة تدمر ومناطق ريف حمص الشرقي". وهذا ما تقرأه تركيا جيداً. 

سوف تحاول تركيا مراجعة التفاهمات مع روسيا بحيث تضمن مشاركة جديّة في معالجة الوضع الناشيء في إدلب، وتأهيل حركة أحرار الشام أو تشكيل جديد تقوم هي بصناعته، وتأمين دعم دولي له، ليحل محل النصرة في إدلب. ومن ثم إكمال أجندتها هناك. 

ثمة استراتيجية أخرى لدى تركيا وهي معاودة العمل على "تأهيل" النصرة، التي أصدرت فور سيطرتها على إدلب بياناً دعت فيه إلى إدارة مدنية للمدينة وريفها وللمعابر مع لواء اسكندرون، وأنها مستعدّة للعمل مع حركة أحرار الشام "للخروج بمشروعٍ يوحّدنا وينقذ ثورتنا ويُصحّح مسارها"، حسب البيان. وهكذا يمكن أن تكون جبهة النصرة قوة تعوِّلُ عليها تركيا ضدّ الكرد وضد دمشق، وبطبيعة الحال ضدّ موسكو وطهران، إذا تطلّب الأمر ذلك، وقد نظرت تركيا إلى "جبهة النصرة" في الحلف المعادي لسوريا كـ "معادل موضوعي" لـ "حزب الله" في حلف المقاومة. 

ومهما كانت طبيعة التفاهمات بين موسكو وأنقرة، فسوف تواصل الأخيرة "إغواء" واشنطن لمزيد من الاهتمام بموضوع إدلب وشمال حلب، ويبدو أن واشنطن أخذت تستجيب لذلك بشكل تدريجي، وقد أكّد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية جوزيف دانفورد، أن أيّ حل سياسي أو عسكري في سوريا، سيأخذ بعين الاعتبار مصالح تركيا الأمنية على المدى البعيد.

سوف تراقب روسيا وحلفاؤها مدى استعداد تركيا لمواجهة "جبهة النصرة" في إدلب. وسوف يركّز المراقبون على تفسير عدم تحرّك تركيا لمساعدة مواليها في مواجهة تنظيم صنّفته هي إرهابياً، سيطر على منطقة حيوية بالنسبة لها ولرهاناتها في الأزمة السورية، علماً أنها أرسلت قوات لدعم حركة أحرار الشام، ولكنها لم تتدخّل، كما أن الحركة لم توجّه مجرّد لوم إلى تركيا على ذلك التخلّي المريب!