الشاه وما بعده

في الحقيقة يُعلّمك الإيرانيون في الداخل ما لا يُعلّمونك إياه في الخارج. يُعلّمونك أن للوطن اعتباراً فوق كل الاعتبارات وأن الوطنية تبني الأوطان. وأن خلافات الداخل تقف أمام الشاطئ وما بعد الشاطئ نتّحد. تهمس لك إيران في الداخل أنك تقف على المفترق الصحيح من التاريخ عندما ترفض كل أنواع التدخلات الأجنبية على امتداد عالمنا العربي. بما فيها تدخلاتها هي.

قصر نيافاران في طهران تحول إلى متحف بعد الثورة
من بيت الإمام الخُميني في جمران، إلى قصر نيافاران، حيث كانت تقطن عائلة الشاه محمّد رضا بهلوي.

وجدتني أمام مساحة على مد البصر، لا أعلم من أين يُفترض بي أن أبدأ، أكثر من فيلا في المكان عينه. وانبهاري يتأهّب لتسجيل المُفارقات والمُقارنات بين جمران ونيافاران.

انبهار خانني وهرب مني إلى ما هو أبعد من مُفارقة الثورة والثروة. حضرت جملة شيرين عبادي عندما كتبت في مؤلفها "إيران تسيقظ" قائلة: "خرجت في التظاهرات مع الثورة ضد وزير العدل ولم أكن أعلم أنني خرجت في واقع الأمر ضد نفسي كقاضية". بين الشاه والإمام مشهدان، لا شيء فيهما أصعب من تحديد الخيارات وصوابيتها. ولا شي أسهل من أن تُقحمك إيران بين هذين المشهدين وأنت مجرّد زائر.
هل أن الدولة المدنية أفضل وإن تفشّت فيها الطبقيّة أم دولة الحاكمّية الشعبيّة التي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وإن كانت ثيوقراطية وفاتورتها الهبوط الواسع للحريات أفضل! إيران الجمهورية ليست ديمقراطية بالمعنى الغربي لهذا المفهوم ولكن إيران الشاه أيضاً لم تكن ديمقراطية. 
أمام ترف غرف الطعام والنوم والاستقبال والمُقتنيات الشخصية للشاه وزوجته، وأمام بزّاته الفخمة المصفوفة والمعروضة عمداً في القاعات وفساتينها المنسوجة من الحرير كجزء من لوحات القصر تستيقظ التساؤلات.
سقط الشاه، رحل الشاه، دخلت إيران في فوضى مخاض إنتاج نظام جديد! ولم تسقط إيران التي التقطت أنفاسها على وَقعِ حربٍ مع العراق. ويا لها من مُفارقة.

سقط صدّام بعدها بسنوات، رحل صدّام، دخل العراق في مخاض إنتاج نظام جديد، سقط العراق!

بين قصر الشاه وقصر صدّام. قد تحترف البحث في المفارقات وتتمرّس فن المقارنات. تستطيع أن تسترجع ما حلّ بقصور صدّام لحظة سقوطه! وما هي القصور أمام الفرق بين سقوط النظام وسقوط الوطن. بين أن يرحل مستبد بيد الشعب وأن يرحل مستبد بفعل دبابة أجنبي امتطاها ابن الأرض!

المُقارنة بين العراق وإيران، تُقدّم على طبق من ذهب الفارق بين سقوط النظام وسقوط الدولة. بين أن يأتي نظام ليس هو الأمثل والأفضل في العالم.. لكنّه قادر على احتواء الجميع تحت مظلّة الهويّة الوطنية. وبين نظام أكثر ما نجح فيه سلخ الهويّات الوطنية لصالح الهويّات المذهبية والطائفية.

حملت معي السقوطين إلى حديقة القصر. ومنها إلى كافيه في أحد أطراف الحديقة مع كوبٍ من الشاي بالقُرفة جلست أتأمّل من بعيد حركة العامة. هؤلاء يحمل كل واحد منهم في جعبته حكاية. ربما نجد بينها ما يُشبه حكاية المتحف الوطني للفن المعاصر في طهران إبّان الثورة.  
هذا المتحف الغني بلوحات كبار الفنانين العالميين. يحرسه رجل بسيط. قوته المتواضع يأتي من حراسة متحف تساوي لوحاته ملايين الدولارات.
هرب الشاه وهرع الحارس باللوحات الفنية إلى قبوٍ في داخل المتحف. اقتحمه الثوار. توسّلهم ألا شي في القبو سوى لوحات. تأكدوا بأنفسهم! كسروا لوحة لزوجة الشاه وخرجوا.

هذا الحارس بتكليفٍ من نفسه. قرّر حراسة المتحف يومياً إلى أن سلّم مفاتيحه إلى سلطة الدولة بوجهها الجديد. لم يسرقه، لم ينهبه وهو القادر على بيع محتوياته بالحد الأدنى والهرب. مَن يستطيع التحكّم في ثوارٍ غاضبين!

في الحقيقة الإيرانيون حراس وطنهم. وإلا كيف صمدوا من ثورة فحرب فحصار دام 37 عاماً لولا تلك المشاعر الوطنية والقومية الراسخة حد العصبية، عصبية بمعناها الإيجابي. عصبية استثارها الشعور بالاستهداف والتحدي. يمكنك مناقشة أي إيراني على ناصية الطريق لتكتشف هذا الانحياز المُطلق للهوية. ليس بالضرورة أن يكون الانحياز لنظام الجمهورية ولكنه بالضرورة انحياز للوطن.

العالم راهن على سقوطهم وهم راهنوا على سقوط رهانات العالم.

وسقطت رهانات العالم فعلاً. بالأرقام حقّقت إيران الاكتفاء الذاتي والنمو في مختلف المجالات. علمياً تحتل المركز الأول في الإنتاج العلمي العالمي من حيث النمو، وفي الثقافة والإنتاج الفكري تطبع سنوياً آلاف الكتب. في العام الماضي فقط طبعت 73 ألف مؤلّف وقد وصلت إلى ما يقارب المليون مؤلّف منذ الثورة. ناهيك عن الصناعات المختلفة والأرقام في تلك المجالات كثيرة ومتوافرة.

 كل ذلك وهي محاصرة. كيف ستكون بعد رفع الحصار عنها.

في الحقيقة يُعلّمك الإيرانيون في الداخل ما لا يُعلّمونك إياه في الخارج. يُعلّمونك أن للوطن اعتباراً فوق كل الاعتبارات وأن الوطنية تبني الأوطان. وأن خلافات الداخل تقف أمام الشاطئ وما بعد الشاطئ نتّحد. يُعلّمونك أن الوطنية حصانة الداخل والقومية حصانة في وجه سطوة الخارج وتدخلاته. وأن استقلالية القرار كرامة.

تهمس لك إيران في الداخل أنك تقف على المفترق الصحيح من التاريخ عندما ترفض كل أنواع التدخلات الأجنبية على امتداد عالمنا العربي. بما فيها تدخلاتها هي.

زيارة إيران في الظروف الحاليّة من شأنها أن تُثير فيك حزناً كيف ينافس هذا البلد  العالم من أجل الحياة ونحن ننافس العالم من أجل الموت. وكأنها أمنية مستحيلة أن نحقّق مشروعاً عربياً يجعل للعروبة مكاناً وللعرب مكانة. بل من الصعوبة تحقيق مشاريع وطنية تحفظ الأوطان من براثن الفتن الطائفية وتنهض بها أمام الأمم. تُثير فيك إيران غبطة تتمّنى لو أن هذه النهضة كانت نهضة عربية وأكثر.