أصداؤه لا تزال حاضرة
مائة عام مضت على وعد بلفور، الذي أصدره آرثر جيمس بلفور وزير الخارجية البريطاني يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917 في صيغة رسالة إلى اللورد في المنظمة الصهيونية روتشيلد، والذي وعد فيه بتأييد إنشاء "مأوى لليهود في فلسطين" مع الحفاظ على الحقوق العربية وهو البند الذي لم يُنفّذ.
كان الوعد خطوة من ضمن خطوات مهّدت لزرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، فقد كتب ليو بنسكر الصهيوني الروسي كرّاسة صغيرة باللغة الألمانية عن الانعتاق الذاتي لليهود عام 1884، ثم عُقِد مؤتمر بازل في سويسرا عام 1898، كانت فكرة الانعتاق الذاتي لبنسكر محاولة في البحث عن وطن يجمع شتات اليهود في العالم، واقترح البعض ومنهم اللورد آرثر جيمس بلفور رئيس الوزراء البريطاني البروتستانتي أن تكون أوغندا أو قطعة من الأرجنتين وطناً يجمع الشتات اليهودي في العالم، خلاصاً من مشكلة اليهود في أوروبا، وفتحاً للأسواق الرأسمالية عندما كانت تتحكّم في العالم وطرق مواصلاته. ولكن حدث عام 1903 أن التقى بلفور بعالِم الفيزياء اليهودي حاييم وايزمان وأحد قادة الفكر الصهيوني، وعندما جمعهما اللقاء، سأل بلفور وايزمان : "لماذا لا توافقون على وطن بديل لليهود في أفريقيا أو أميركا الجنوبية؟"، فردّ عليه وايزمان بسؤال مُضاد، قال : "هل تقبلون باريس بدلاً من لندن؟"، فوقف بلفور وأجاب بدهشة : "ولكن لندن موجودة بالفعل"، فردّ وايزمان بأن أورشليم كانت لليهود عندما كانت الأرض المُقامة عليها لندن مستنقعاً، وانتهى اللقاء وعادا للقاءات متعدّدة استطاع فيها وايزمان أن يجعل من بلفور أصولياً مسيحياً صهيونياً بامتياز، بعد أن أقنعه بأن الأرض موجودة والشعب موجود والتوراة موجودة، ولكنهم لم يجتمعوا معاً في أرض فلسطين، واستشهد له بشعر الشاعر الأندلسي اليهودي هاليفي عايزي: "إن قلبي في الشرق، أما جسمي ففي كل أقطار الأرض"، وكذلك أسفار من المزامير البابلية: "تحت ظلال أشجار الزيتون تذكّرنا صهيون فبكينا، كيف أنساك يا أورشليم، تُقطع يميني لو نسيتك"، وحدّث وايزمان بلفور عن كيفية أن مارتن لوثر مؤسّس البروستانتينية أخذ التوراة وجعلها هي العهد القديم، وأنه أكّد على أن بقاء الشعب اليهودي دليل حيّ على صحّة الكتاب المقدّس، المهم وبعد جلسات طوال، صار بلفور متعصّباً لليهود، ووعد أن الظروف لو سمحت وكان مسؤولا لجاهد وسعى من أجل إقامة وطن لليهود في فلسطين، وهذا ما حدث بالفعل، وعندما كان بلفور يوم 2|11|1917 يذيع وعده، كان وايزمان حاضراً في مجلس العموم البريطاني، وبعد أن انتهى بلفور من إلقاء البيان، أسرع وايزمان للهاتف وخاطب زوجته قائلاً "المولود ذكر"، هذا ما حدث ..
ولكننا لا يمكن أن نتناسى أن الصهيونية والدعم الغربي الأوروبي لإنشاء وطن لليهود في فلسطين، تخلّلته نوازع دينية نعم، ولكن لا يمكن التقليل من شأن الحقبة الاستعمارية، فبريطانيا رأت أن احتلال فلسطين يمنع وحدة شرق العالم الغربي بغربه، ويمنع ضرورة عودة الحروب الصليبية للسيطرة على الأماكن المقدّسة في فلسطين، ووجود كيان صهيوني في فلسطين يمنح حقاً لبريطانيا في حماية قناة السويس طريقها إلى درّة مستعمراتها في الهند، وقد رأينا من خلال الصراع الرأسمالي الغربي كيف حاول نابليون بونابرت احتلال مصر فيمنع الإنكليز من الوصول إلى الهند، رغم أن قناة السويس لم تكن أُنشِئت بعد، ولكن الحال قد تغيّرت وشُقّت القناة، واشترت بريطانيا أسهم مصر، ثم احتلتها عام 1882، وصار الوضع مهيّئاً لديمومة الاحتلال البريطاني لكل مستعمراتها، ولا ننسى أيضاً كيف تقاسمت بريطانيا وفرنسا الدول العربية في معاهدة سايكس بيكو عام 1916، ثم خسارة الدولة العثمانية الحرب مع حليفتها ألمانيا، وكل الدول العربية والإسلامية مُنهمكة في قضية التحرّر الوطني، فظلّت الفرقة تضرب بشدّة بين أبناء العروبة والإسلام. لقد تنافس العرب في التقرّب من بريطانيا العظمى، حارب عبد العزيز آل سعود الشريف حسين، وكلاهما احتمى بالبريطانيين، فوقف الإنكليز مع القوة الجديدة المُتمثّلة في الأسرة السعودية، التي عقدت معها اتفاقية دارين عام 1915، تنصّ على أن ابن سعود لا يدخل في اتفاقيات أو يحارب أو يفاوض إلا بموافقة بريطانيا، وذلك في مقابل حماية العرش السعودي، ثم احتلت القوات السعودية الحجاز وخرج الأشراف ليؤسّسوا الملك في شرق الأردن وسوريا ثم العراق، وهؤلاء أيضاً احتموا بالقوة الاستعمارية الكبرى بريطانيا، أي أن العرب ظلّوا يتقاربون مع بريطانيا رغم صدور وعد بلفور، واستغلّت انكلترا هذا الضعف لتزيد وتمنح الوكالة اليهودية زيادة المهاجرين اليهود إلى أرض فلسطين، هذا وقد اندلعت ثورات كبرى مثل ثورة البراق عام 1929، والثورة الكبرى عام 1936، والتي تم قمعها بموافقة عربية، عندما طلب ملوك العرب من الفلسطينيين أن يكفّوا عن الثورة مقابل تعهّد بريطاني لحماية الحقوق العربية في فلسطين، وورثت الولايات المتحدة الأميركية قيادة العالم بدلاً من بريطانيا، وأسرع العرب إلى الدولة القوية الجديدة، وحتى اليوم أميركا تدعم الصهيونية.
نجد أن تاريخ وأضرار وأصداء وعد بلفور كما هي، والدول العربية تعيش حالاً من الصراع العنيف، والوقت الراهن العرب فيه متفرّقون أكثر من يوم إصدار الوعد المشؤوم، وتستغلّ الدولة الصهيونية هذا الصراع العربي ــ العربي، أو العربي ضدّ الإرهاب العالمي لتمنح لنفسها الحماية المُستديمة، ونلاحظ أن القوى العربية المؤثّرة هي التي تتقارب مع الكيان الصهيوني، فالسعودية والإمارات وقطر ومصر والأردن تتعامل مع إسرائيل، وتتقارب مع الدولة الأميركية، التي يقوم رئيسها ترامب باستغلال الدول الخليجية واستنزافها مالياً وعسكرياً، وتحاول الدولة الصهيونية تأسيس كيان كردي موال لها يشتّت شمل العراق ودول المنطقة أكثر مما هي مُتشرذمة.. وكلها من دواعي فقدان المناعة السياسية والعسكرية والفكرية للأقطار العربية والإسلامية، والتي مهّدت للوعد البلفوري، ومازالت تراهن عليه القوى الاستعمارية..
ويبقى محور المقاومة يدافع عن العروبة وعن قضية تحرير فلسطين، ولذلك كان الإرهاب العالمي ومعه الاستعمار الدولي يحارب في الأرض السورية بضراوة لم تشهدها المنطقة حتى في حرب احتلال أميركا للعراق، وذلك من أجل إسقاط النظام العروبي في سوريا، وهو الداعم للمقاومة اللبنانية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ضد الاستعمار والصهيونية، بالإضافة إلى الدولة الروسية، ونشاهد كثيراً من دلائل ضعف اسرائيل رغم القوة والأمان اللتين تمتلكهما، وتدّعي أن التشرذم العربي سيظل مستمراً، ولكن الأمل في محور المقاومة انتعش بعد أن انتصرت سوريا ومحور المقاومة على الاستعمار والإرهاب، ويبقى التساؤل قائماً، وهو إذا كان وعد بلفور أسّس لقيام الكيان الصهيوني بحماية غربية عام 1948، ألا يمكن إسقاط آثار الوعد بإزالة آثاره بحماية إسلامية بعد مائة عام من السقوط؟ نعتقد أن الأمل قائم، لأن زيادة الوعي الشعبي العربي الإسلامي يتنامي، ومعه الشعب الفلسطيني الثائر، وهو القادر على الصمود ودعم قوى المقاومة، رغم التشويه الإعلامي لتلك القوى المقاومة، فدائماً التاريخ يعدّل مساراته، ودائماً ما يعود الحق لأصحابه، وذلك هو الأمل، بعد الأمل في الله تعالى.