تونس وسوريا هل حان وقت الحساب؟
يتحوّل الإرهاب اليوم إلى فائِض وظيفي استراتيجي يُفسِّر السلوك السياسي الوصولي الذي أسفرَ عن وجهه منذ تفجّر الأزمة السورية. كان هناك رِهان ومصلحة انخرطت فيها حكومات عربية واقليمية ودولية كثيرة ومنها حكومة الترويكا التي حكمت تونس بعد سقوط نظام بن علي. لكن الرهان خسر والمصلحة لم تتحقّق وأصبح الوقت مناسباً لإشهار الأدلّة والبراهين التي تؤكّد التورّط.

مع بداية نهاية الحرب في سوريا، ترتفع أصوات حقوقية وأمنية في تونس مُطالِبة بالتحقيق مع الجهات التي تتّهمها بتسفير تونسيين إلى سوريا والتسبّب في قتْل الكثير من المدنيين السوريين وتشريدهم. بات معلوماً اليوم أن تونس كانت من أكثر الدول تصديراً للإرهابيين إلى سوريا. ومن المهم طرح الأسئلة المُناسبة عن الأسباب الحقيقية لذلك الحضور الكثيف لمُقاتلين تونسيين في مناطق النزاع وساحات الحروب في سوريا وغيرها.
لا يتعلّق الأمر بثقافة التونسيين، بقدْر ما يتحدَّد في وجود جهات عملت على غسْل عقول الشباب في السجون والمساجد والجمعيات الدينية ثم تسفيرهم. كثير من أولئك الشباب، الذين تحوّلوا إلى إرهابيين يُقاتلون في المكان الخطأ، هم خرّيجو سجون، بسبب جرائم حق عام أدينوا بها. ومجرّد وجود تيار يحمل أفكاراً سلفية، لا يُبرّر حضور ذلك العدد الكبير من الشباب في الصراعات المُسلَّحة والحروب المُتنقّلة من أفغانستان إلى العراق ثم سوريا أخيراً، بل يؤكّد من دون شك وجود جهات سهّلت لهم السفر والتنقّل المُكلِف مادياً والصعب إلى درجة الاستحالة أمنياً.
وهذا الأمر يؤكّد عليه الكثير من الوثائق الأمنية التي توجّه التهمة إلى جهات نافِذة داخل الحكومة زمن حُكم الترويكا. لا تتّهم تلك الوثائق جهات مُعيّنة داخل الحكومات السابقة بالتورّط في إرسال تونسيين إلى بؤر التوتّر خارج الحدود فحسب، بل تصرّ أيضاً على تواطئها مع إرهابيين داخل البلاد ممن اختاروا الاختباء في جبل الشعانبي وشنّ هجماتهم من هناك بين فترة وأخرى.
المعني الأساسي بتلك التّهم هم قياديون في حركة النهضة شغلَ بعضهم وزارات مُعيّنة مثل العدل والداخلية والخارجية عندما حكمت بين سنتي 2012 و2014 بالشراكة مع حزبين آخرين هما حزب المؤتمر وحزب التكتل. خلال جلسة استماع داخل لجنة التحقيق في شبكات التسفير إلى بؤر التوتّر في مجلس نواب الشعب، الإثنين الماضي، قال رئيس المنظمة التونسية للأمن والمواطن، عصام الدردوري، إن بحوزته وثيقة بإمضاء وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري صادرة بتاريخ 3 ديسمبر 2012 وتحمل ختماً سريّاً، تقضي بالسماح لداعية سلفي بزيارة كل السجون، الأمر الذي ساهم في تحوّل سجناء حق عام إلى مُتطرّفين. وقال الدردوري إن هذه الزيارة ساهمت في استقطاب سجناء الحق العام لفائدة التنظيمات المُتطرّفة.
كما أكّد أن إرهابياً اعترف بدخول 117 إرهابياً آخرين إلى تونس قادمين من بؤر التوتّر عبر طائرة خاصة بهدف إسناد مجموعات إرهابية بالشعانبي في ولاية القصرين. ولم يتردّد عصام الدردوري في تقديم تقرير للجنة المعنية، قال إنه تضمّن وثيقة «تؤكّد تورّط جهات رسمية تركية في تزوير جوازات سفر لإرهابيين كانوا في جبهات القتال في سوريا، للعودة إلى تونس». وأبرز أيضاً وجود أمنيين متورّطين في استخراج جوازات سفر لإرهابيين من دون الوثائق اللازمة لذلك ومن دون تثبّت، مشيراً إلى أن سنتي 2012 و2013 شهدتا قيام رحلات منظّمة عبر شركة طيران تونسية خاصة وشركات طيران أخرى تونسية وتركية، حاملة إرهابيين إلى بؤر التوتّر.
هذه الوثائق والأدلّة التي طرحها الدردوري دفعت النواب الحاضرين إلى الدعوة لضرورة دراسة الملف الذي قدّمته المنظمة التونسية للأمن والمواطن، والمُطالبة بدعوة وزير الداخلية ووزير الخارجية لتوضيح الملفات التي تهمّ كلا وزارتيهما.
لكن نواب حركة النهضة رفضوا الاتّهامات وشكّكوا في مصداقية الوثاق المُقدَّمة.. ثم فوجئ الحاضرون بانسحابهم من جلسة الاستماع. ولم يتوقّف الأمر على الانسحاب بل إنه وصل إلى حد الصُراخ والتهديد بفتْح تحقيقات من النيابة العمومية ضدّ الدردوري كما قال هو نفسه. لا شك أن ردّة الفِعل هذه تعكس انزعاج هؤلاء النواب من التقرير المُقدَّم، وخوفهم من تداعيات هذه القضية.
لا تتعلّق قضية تسفير مُتطرّفين للقتال في سوريا بالجرائم المُرتَكبة في حق شعب عربي آخر، بل إنها تمسّ بشكل جوهري الأمن الوطني التونسي. استشعرت الحكومة الخطر، وبعد بدء عودة مئات من الإرهابيين أعلنت عن برنامج لإعادة تأهيل المُقاتلين العائدين من بؤر الإرهاب. لكن هذا الإجراء لا يكفي لأنه يغضّ الطرف عن ضرورة التحقيق القضائي النزيه مع العائدين ومُقاضاة كل المُتورّطين في عمليات التسفير.
يرتبط الأمن الوطني بمفهوم "الزمن الاستراتيجي" القادِر على استشراف المخاطر قبل وقوعها. والمعقول هو أن يصبّ العمل المخابراتي والتفكير السياسي الاستشرافي في مجرى واحد وتجنّب انزلاقات ردّات الفعل السياسية. غير أن ذلك لا يبدو شيئاً قائماً في الحال التونسية منذ سقوط حُكم بن علي. من الواضح أن الاستراتيجيات الدولية هي التي تحكم التوازنات المحلية والاقليمية، وهي التي تُحرِّك القرار السياسي في هذا الاتجاه أو ذاك. ويبدو أن المُتَّهمين بتجنيد شباب وتسفيرهم إلى سوريا يراهنون على تلك التوازنات الدولية لتجنّب أية إدانة قضائية داخل البلاد أو خارجها.