المطربة نجاح سلام : أسلوبٌ يعكِس ملامِح روح
اعتمدت نجاح سلام بالإضافة إلى فخامة الصوت إذن، على معرفةٍ غنائية، كوسيلةٍ فكريةٍ للتعبير، تتجسّدُ في مبادئ وقوالب موسيقية مُتعارَف عليها ولازِمة ضرورية لتميّز المطرب أو المطربة. سلام ربطت بين ما تؤدّيه، وبين الخلفية الثقافية للعصر الذي نبع فيه وتفجّر عنه، لأنها أدركت بحدسها الذكيّ أن مُميّزات المجتمع السائِدة على وجهِ الخصوص، المُميّزات الفكرية والثقافية والسياسية في مرحلةٍ من مراحلِ العالم العربي، تكون عادةً هي نفس السِمات التي تنطبع على العمل الفنّي، أو التي يتوجّب أن يُظهرّها العمل الفنيّ، ومنه الغناء الذي كان رسالتها وبرعت فيها.
-
كانت نجاح سلام الوحيدة بين مطربات جيلها القادرة على آداء الموّال كفنّ قائم بذاته
يرتبط الذوق الفنّي / الغنائي عند المطربة اللبنانية نجاح سلام، بأسلوب عصرٍ عاشته بيروت، والبلدان العربية المُحيطة، وعاشته سلام في بيئة فنية بامتياز لجهة الوالِد محيي الدين سلام عازِف العود والمُلحّن، ورئيس ومؤسّس الدائرة الموسيقية في الإذاعة اللبنانية آنذاك، والمُشرِف على اختيار الأصوات.
لم تعتمد سلام على صوتها الشجيّ فحسب، بل أرفقتهُ بمعرفةٍ غنائيةٍ نهلتها من أستاذها ( والدها) الذي رعى نشأتها الفنية وعلّمها أصول الغناء، مُضيفاً إلى موهبتها الفطرية العِلم الموسيقي ما مكنّها من قُدرتها التي نعرف، وبريق حضورها في عالم الغناء.
اعتمدت نجاح سلام بالإضافة إلى فخامة الصوت إذن، على معرفةٍ غنائية، كوسيلةٍ فكريةٍ للتعبير، تتجسّدُ في مبادئ وقوالب موسيقية مُتعارَف عليها ولازِمة ضرورية لتميّز المطرب أو المطربة. سلام ربطت بين ما تؤدّيه، وبين الخلفية الثقافية للعصر الذي نبع فيه وتفجّر عنه، لأنها أدركت بحدسها الذكيّ أن مُميّزات المجتمع السائِدة على وجهِ الخصوص، المُميّزات الفكرية والثقافية والسياسية في مرحلةٍ من مراحلِ العالم العربي، تكون عادةً هي نفس السِمات التي تنطبع على العمل الفنّي، أو التي يتوجّب أن يُظهرّها العمل الفنيّ، ومنه الغناء الذي كان رسالتها وبرعت فيها.
كان لنجاح سلام " أسلوب" راعَت فيه نوعيّة القالب المُغنّى والأفكار التي تُميّزه، الإيقاعات، الألحان ومقاميّاتها، فالأسلوب هو ملامح العمل الفنيّ، وملامح روح نجاح سلام على وجهِ التحديد.
السيّدة سلام المعروف عنها قولها :" الكلام فوضى والغناء نظام" تميّزت باحترامها الشديد لفنّها وجمهورها ، غنّت الأغاني الشعبية البسيطة :" برهوم حاكيني" " رقة حسنك وسمارك" و" ميّل يا غزّيل" وسواها ، بالجدّية عينها التي غنّت فيها الأغاني المُعقّدة آدائياً بقدراتها الصوتية من مثل " عايز جواباتك" من ألحان رياض السنباطي و " يا أغلى إسم في الوجود"و" أنا النيل مقبرة للغزاة".
ما يعنيني هنا هو تسليط الضوء على أغنياتها التي صدحت في سماء القومية العربية، وشكلّت فيها مع رفيقِ دربها وزوجها الفنان الشامِل محمّد سلمان ثنائياً فنياً ووطنياً مذ قدّم رائعته : " لبيّك يا علَم العروبة " التي كانت حدثاً فنياً أثناء العدوان الثُلاثي على مصر، إلى الحدّ الذي دفع الرئيس جمال عبد الناصر الى الإشادة بالعمل وتوجيه الفنانين إلى المزيد من الأعمال الحماسية الشجيّة، والتي تُثير عاطفةً إيجابية.
توالت الأناشيد الوطنية على وقْع المعارك التي خاضتها مصر، وكانت حفلات "أضواء المدينة" تصطخب بالنجوم والأعمال الفنية التي ألهبت تلك الحقبة من تاريخ مصر والعرب ، شاركت فيها جميعاً نجاح سلام بحماسة وإيمان ، فكان نشيدها الخالد الذي ترتجف له الأفئدة المُخلِصة المُتطلّعة إلى النصر :" أنا النيل مقبرة للغزاة " للشاعر الكبير محمود أحمد إسماعيل والعملاق رياض السنباطي الذي كان يرى في صوت نجاح سلام وسعاد محمّد ملاذه إلى الأعمال الضخمة. تُغنّي سلام " أنا النيل مقبرة للغزاة" من كل مكامن روحها وقلبها، ويُخيّل لك كسامِعٍ أن جيشاً بأمّه وأبيه في تضاعيف الأغنية ويجهد في الساعة والتوّ إلى الجهاد والنصر.
قبل استقلال الجزائر كانت نجاح سلام الصوت الأول الذي غنّى لبلد المليون شهيد : " ياطير يا طاير خد البشاير من مصر وإجري على الجزاير".
نجاح سلام اعتُبِرت بحق مطربة الوحدة وصوت العروبة الأشدّ تأثيراً. في حرب تشرين دوّى نشيدها الخالد " سوريا ياحبيبتي" الذي أصبح النشيد القومي غير الرسمي لسوريا، من تأليف وتلحين محمّد سلمان الذي شاركها الغناء ومعه المطرب محمّد جمال.
نُعرِّج بالمناسبة على القصيدة الدينية التي برعت فيها سلام وكان لها معها تاريخ وأواصر تشدّها إلى النشأة الأولى في بيت جدّها العلاّمة الشيخ عبد الرحمن سلام ، حيث ترّبت على الاستماع إلى الترتيل المُنّغم لآيات القرآن الكريم الذي طبع مسيرتها الغنائية بطابعه الروحاني الجليل.
سلام لا تُفرِّط ولا تُبالِغ في الزخارف والعُرَب، وتعرف جيّداً أين ومتى وكيف تُوظِّف هذه الحُليات الآدائية بما يخدم الجملة اللحنية ومعانيها التعبيرية وأبعادها الموسيقية.
سلام عاشِقة الغناء، ومن خلاله عرفت طريقها إلى السينما لتقدّم عدداً من الأفلام اللبنانية والمصرية الناجحة . كما كانت أول مطربة لبنانية تؤسّس لصناعة السينما في وطنها لبنان حيث أنشأت شركة :" سمر فيلم" مع زوجها الراحل محمّد سلمان ، كما أسّسا معاً شركة إنتاج غنائي " ريما فون " قدّما من خلالها أجمل الأغنيات ، سواء بصوت مطربتنا الكبيرة أو سواها من الأصوات.
موهبة نجاح الفذّة غلبت تصلّب والدها حيال اشتغالها بالفن، لا سيما حين قال له محمّد عبد الوهاب :" إن ما في صوت نجاح ابنته أقوى وأثمن من عناده " .
قدّمت سلام للفن اللبناني ، العربي على وجه التحديد، الكثير، مصحوبة أبداً بجذور تقاليد فنانة لبنانية من عائلة عريقة في بيروتيّتها وفي تقاليدها المُحافِظة ، فلم تَشُب حياتها الشخصية ولا الفنية أية شائبة، بل بقيت على ثباتها في مواقفها الفنية والسياسية والشخصية من حيث احترام الذات والعقيدة و"الآخر" ، وهو هنا جمهورها الذي بذلت له كل حياتها وتضحياتها.
كانت نجاح سلام الوحيدة بين مطربات جيلها القادرة على آداء الموّال كفنّ قائم بذاته ، ووسيلة للسلطنة والتطريب وحشد كل طاقات الصوت في الغناء، وهذا يتطلّب فهماً موسيقياً واسعاً وتبحّراً في عالم المقامات..إلى قُدُرات صوتية تُمّكن المؤدّي من التنقّل بسهولة وسلاسة بين المقامات المختلفة ثم العودة إلى المقام الأصلي الذي سوف يكون توطئة للأغنية التي هي موضوع الغناء.
نجاح سلام صوتٌ واكبَ أحداثَ الأمّة بيقظةٍ وإخلاص، وساهم ( كما كتبت ابنتها ، الكاتبة والناقِدة الفنية سمر سلمان) مع رفاق الدرب في نهضة الموسيقى العربية وتوظيف الفن للتعبير عن انفعالات الإنسان العربي وطموحاته وأحلامه.