مُلصقات سخيّة بألوانها وجدران مُطيعة
لم يكن الحال اللبناني أكثر تواصلاً مع سابقه كما يحدث الآن. فإذا كانت الانتخابات اللبنانية المُزمَعة قريباً، علامات أولى تبشيرية داخلية في حياة هذا البلد، وذات وعود نهضوية ما لهذا الفريق، فإن علامات تبشيرية داخلية مُماثلة للفريق الآخر مرفوعة وبشكلٍ موازٍ ومتداخل إلى حدّ لا نعرف معه، أيها المُخلّصة فعلاً، وأين هي البداية.
إن الانتخابات بالنسبة للشعوب كافّة، العربية منها على وجه الخصوص ولبنان منها، رياضة تقوم على إظهار التفوّق، بيد أن الاهتمام يوجّه إلى مُحصّلة هذه الانتخابات، إلى النتيجة النهائية، ويُمكن للمُعاناة المرئية أن تُقرأ فقط بوصفها علامة لهزيمة بيّنة، أما الانتخابات الحقّة فهي دراما يتعيّن على كل اللبنانيين خوضها، كما يتعيّن على كل لحظة تسبق وقوعها، أن تُعقل دائماً بوصفها ترتيباً أخلاقياً قبل أن يكون مبدئياً أو وطنياً أو سيادياً وسوى ذلك. لم يعد المدى الكوسموبوليتي لهذا البلد كافياً. ثمة مدى آخر بل أمداء، منها ما يلحظ اختلاطها وخصوصية وخطورة وغنى هذا الاختلاط، ومنها ما يجعلها قلقاً فعلياً خالصاً، وإن كانت شعاراته المرفوعة على شكل شعارات الفريق الآخر من حيث الشكل.
معارك بيروت الانتخابية كثيرة ومُتعاقبة وإن تحدث في أوانٍ متفرّقة بحسب أوجاع البلد . الأهمّ إننا الآن في موسم التحضيرات لانتخابات يرفعونها "مصيرية " ويبدون بكامل تحفزّهم للمعركة المقبلة.
إنها المدينة، بيروت تحديداً، تُسامح وتهرع مُديرة ظهرها لكل المُنغّصات والطعنات التي أخذت بمفهومها للمواطنة، في سعيها المدينّي اليومي بحركته وسرعته، إلى الاستعداد المُفرط لأمّ الجولات الانتخابية. نحن الذين نعتقد أن الأصرة التاريخية بين كافة الطوائف، مُعرّضة للضياع أكثر مما شهده ماضي البلد وحاضره، وبدلاً من استذكار التاريخ وقراءته وأخذ العِبَر، يبدو الانشغال بكل ما هو مُبهرج شعاراتي، بكل ما هو آني وموضعي، أي موبقة الفساد في إدارات الدولة، وما استتبع هذا الفساد من حال مزرية مُعيبة بالفعل على كل مرافق البلد. الانشغال الآن ينحصر في كل ما هو خدماتي – وهذا مُحق نظراً لما يُلاقيه المواطن من ويلات في هذا الشأن - لكن من دون الالتفات إلى استراتيجيات وتحالفات وطنية بعيدة الأجل.
الإنشغال آنيّ وموضعي: السيرة الشخصية للمرشّح، اليوميّات، العائلة، الحياة المباشرة، الوعود... وهذه الأمر شاغلاً لا يُشبع، إذ تغدو الاختيارات أشبه بتوثيق هوَسي لحياة هذا المُرّشح أو ذاك يتعذّر إحصاؤها. هكذا تفعل الاستعدادات للانتخابات وليس المرامي الكبيرة والبعيدة منها، بل ما يكتنزه هذا المرشّح من بذل وثروة، تكفل تظهيرها الإطلالات الإعلامية وجيش الميديا الذي يقف وراءه، إلى احتمال الرشاوى التي تُطلق في السّر والعلن. أمّا الوطن، أمّا فكرة الوطن، فغائبة وما على المواطن "الملدوغ" سوى الخروج والتواري من اللعبة الشاملة التي هي فلسفة العصر ولغته، أن يخرج من التشخيص البطولي إلى المجانية المُفرطة واللعب الكلامي .
نحن العابرون النهاريون في شوارعها من بيوتنا إلى أعمالنا، مع سوانا من العابرين عبورهم النهاري ولآخر الليل بغية السهر والترفيه والتسلية وهي سمة لبنانية بامتياز ، نرى إلى بروجكتورات ظلال السرعة التي تأخذ بالمدينة، كأنما المعركة هذه، أولى معاركهم الانتخابية، إذ تنهض الجدران بصوَر المرشّحين والمرشّحات، مع شعارات عنتريّة مكتوبة ضخمة وظاهرة. يحاول بعضنا أن يبقى على عادته، مُتفرجّاً فحسب، ولا يخشى على نفسه من أن يؤخذ في اللعبة اللبنانية الممجوجة والأبدية. البعض الآخر ليس مُتفرّجاً على ما يبدو، وهو حرّ و "منخرط" أيضاً بكافة التفاصيل. كلمة الانخراط هنا ليست مجّانية ولا عرَضية، بل في صلب اهتياج شريحة واسعة من اللبنانيين بحسب انضوائها في كنَف هذا الفريق أو ذاك حيال معركتهم هذه تحديداً.
معركة الانتخابات المقبلة حثيثاً إن لم يعقها حدث ما عربي أو دولي أمني بالضرورة، هي أطياف معارك سابقة، ومعركة انزياح واضح بالضرورة عن المعنى الذي يُراهن عليه هؤلاء وأولئك. ليس انزياحاً فحسب لكنه التجريم أيضاً، فكل من لا ينضوي إلى أحد من أهله وعشيرته يلعبُ وحيداً في فضاء خالٍ وموحش. الأنضواء هنا، حاجة تعبيرية، ونخشى أنها مرَضية وشبه هذيانيّة. فالانضواء هنا حاجة تعبيرية على الأقل، لناس المدينة التي شهدت أهوالاً منذ سنوات طويلة. لنقل إنها حاجة تعبيرية ولا نريد أن نقول أي تعبير آخر، وهذه الحاجة عند هذا الفريق وذاك أو لهذا الفريق وذاك، لا يُسلس أحوال بيروت بل يزيدها عصابية وفرقة. يريدنا هذا الفريق أن نرى إلى إنجازاته على الرغم من عيشنا الواحد البائِس في كَنفه، ويريدنا الفريق الآخر أن نرى إلى جهوزيته الفلكية لكيان لبناني حرّ ومستقل، إنجازات مازالت على ما نعرف قيد التناحُر والتشاوف، ووليدة مخيّلات لا تمتلك سوى مُفردات بائسة تنسج عليها لبنانها الأفضل.
حرب انتخابات حامية مقبلة لا تُرى مع ذلك مستقلّة أو ناجية من موروثات أوصلت البلد إلى ما هو عليه.
إن الأطراف كافة داخل فكيّ كمّاشة في استشرافهم الهمايولي لبلدٍ سعيد. حرب انتخابات تحت وطأة نزاعات اقليمية ودولية، فيما الرؤيا غائبة عن بلد لمّا يمتلك أغلب سياسييه قرارهم بعد، رغم الصوَر المنثورة على الحيطان، لنخبة الأطراف المتنازعة، ذلك أن بيروت لا تمتلك أن توجد بعد، كصاحبة قرار، بل يتوارى ساستها خلف الشعارات الفارغة، بل يُحسنون التواري في هذه الشعارات تحديداً.
صوَر تتكرّر لشخصيات نعرفها وأخرى لا نعرفها. أشكال تُذكرّك بالحرب الأهلية وما تبعها من حروب، ومفردات في تراكيب شعارات بائدة كأنما تضع الحدّ الضروري لقيامة البلد، كأنما تواصل ربط أجزائه أو تنسج عليها وهي في الحقيقة لا تفعل.