تركيا بعد الانتخابات، أي تغيير تجاه سوريا؟

أظهرت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا 24 حزيران/يونيو قابليتين أو استعدادين متعاكسين تقريباً حيال سوريا، الأول هو ما عبرت عنه قوى المعارضة من استعداد لتغيير الموقف من سوريا بالتمام، وبناء علاقات قوية معها؛ والثاني هو ما عبرت عنه الحكومة من استمرار في التورط العسكري والسياسي في الأزمة السورية. لكن القابليتين أو الاستعدادين ليسا سواء، إذ إن فوز أردوغان في الانتخابات كشف أن القوامة فيهما هي –حتى الآن- للعداء والتورط، وربما السعي لضم أجزاء من الجغرافيا إن أمكن ذلك.

كثيراً ما يستعيد أردوغان في خطابه وسياساته ما حدث قبل مئة عام في المنطقة

ثمة في السياسة التركية أمر مُلغزُ بالفعل، إذ إن فارقاً نسبته 2 بالمئة في نتائج الانتخابات يُمكِّنُ –مع عوامل أخرى- أردوغان من مواصلة الحكم والسيطرة على المجتمع والدولة والسياسة الخارجية، فيما تكاد المعارضة تغيب عن صنع السياسة في تركيا، داخلياً وخارجياً! هل ان فارق الـ 2 بالمئة المذكور يخص سوريا بالذات؟ وهل مثَّلَ السوريون "الورقة" التي رجحت فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؟ ثمة تقديرات بأن نعم، من وجهين على الأقل: الأول حالة الاستقطاب الاجتماعي والديني والمذهبي وحتى القومي داخل تركيا، جراء الأزمة السورية، يُجَيّرُها أردوغان لصالحه؛ والثاني هو دور السوريين المُجنسين، وحتى غير المجنسين البالغ عددهم حوالي مليونين ونصف، الذين استُخدموا في "أغراض انتخابية" مثل التصويت بشكل غير قانوني لصالح أردوغان وحزبه، وخاصة في محافظات أورفا وعنتاب وكلس ولواء اسكندرون، أو استُخدِموا في أعمال الترهيب للناخبين المؤيدين لخصوم أردوغان. (زمان، 26-6-2018).
كثيراً ما يستعيد أردوغان في خطابه وسياساته ما حدث قبل مئة عام في المنطقة، لحظة الانهيار العثماني وموت السلطنة والخلافة، ويرى في فوزه بالانتخابات الأخيرة "تفويضاً" من "الشعب" و"الأمة" لمتابعة برنامجه لاستعادة أمجاد السلطنة المفترضة أو المتخيلة.
يحاول أردوغان "تصحيح" ما اعتبره "خطأ تاريخياً" وقع منذ مئة عام تقريباً، عندما انسحب الترك من سوريا في أعقاب هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى 1914-1918، ثم إعلان الجمهورية التركية عام 1923، هنا سِرُّ تركيزه على اتفاقية لوزان عام 1923، وحديثه المتكرر عن ضرورة مراجعة ما كان في تلك الفترة، ولا بد أن الأطماع باقتطاع أراض في شمال سوريا والعراق يأتي في هذا السياق.
صحيح أن أردوغان لا يجد حتى الآن أي موانع أو عقبات جدية أمام مشاريعه الاستعمارية في شمال سوريا والعراق، إلا أن تطلعاته ورهاناته ليست حصينة أو آمنة بما يكفي، كما أن مكاسبه في شمال سوريا هشةٌ، ويمكن أن تذهب بها أو تقوضها تطورات غير محسوبة، مثل: تغير الموقف مع موسكو وطهران؛ أو بروز عداء متزايد يمكن أن ينفلت في وجهها من قبل الرياض وأبو ظبي؛ أو رغبة تل أبيب في معاقبة أردوغان والتضييق عليه والحد من اندفاعته الإقليمية؛ وتراجع المواجهة بين الرياض وطهران؛ وأن يقوم تفاهم مديد بين موسكو وواشنطن. كما أن استعادة دمشق لقوتها يمكن أن يغير المشهد بالتمام.
أدت المخاوف من التورط في سوريا إلى نمطين متعاكسين من الاستجابة:
- الأول لدى المعارضة التي تريد الانفتاح على دمشق، ليس حباً بالرئيس الأسد ونظامه، ولا نكاية بأردوغان، ولو أن هذا وارد على أية حال، إنما إدراكاً للمخاطر، وضرورة التوصل إلى مقاربة تركية-سورية، ومقاربة إقليمية أو مشرقية تجمع تركيا مع كل من إيران وسوريا والعراق، على ما قال كمال كيليشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض. (زمان، 27-6-2018).
- الثاني هو أن مدارك التهديد تزيد الميل للمخاطرة، على ما يقول عالِمُ الاجتماع والسياسة أولريش بيك، إذ ان التراجع من قبل تركيا يمكن أن يجعل المنعكس الكردي السوري، والسوري عموماً، أكثر تأثيراً على تركيا نفسها، بالإضافة إلى المنعكسات الأخرى.
تبدو تركيا أكثر اهتماماً بإقامة بنى سلطة بديلة في مناطق سيطرتها في شمال سوريا: خدمات التعليم والصحة والبريد والاتصالات والأمن والبنى التحتية والشؤون المدنية والأوقاف والضرائب، وحتى الإشارات ودالّات الطرق مكتوبة باللغة التركية، وهذا يتجاوز –كما هو معروف- دعم المعارضة ضد النظام السياسي إلى تهيئة الظروف لإقامة كيانية جغرافية يكون لها وضع خاص ضمن الدولة السورية.
وسوف يكون لما تقوم به تركيا، ما بعده. ما لم تتبدل الأحوال بتمكين الدولة السورية من استعادة السيطرة على كامل جغرافيتها، ووقف التدخل الخارجي في شؤونها. وحتى ذلك الحين، وجب على دمشق وحلفائها أن يعملوا للحيلولة دون تمكن تركيا من سلخ جزء آخر من الأرض السورية.
يطمح أردوغان بأن يتمكن من إتمامِ مراجعةِ اتفاقية لوزان عام 1923 في مئويتها في العام 2023، انطلاقاً من البوابة السورية، إلا أن المنطقة مقبلة أيضاً بعد عامين، أي في العام 2020، على ذكرى مئوية اتفاقية أخرى هي اتفاقية سيفر 1920، التي مثلت كارثة غير مسبوقة في التاريخ والمخيال التركي، وحلماً مُجهَضَاً لعدد من شعوب المنطقة وفي مقدمهم الكرد والأرمن واليونانيين، وحتى العرب. وقد لا يتطلب العمل على تغيير أجندة أردوغان تجاه سوريا والمنطقة أكثر من "تشجيع" الشعوب في تركيا على تجاوز عتبة الـ 2 بالمئة المذكورة أعلاه!