إدلب نحو الحسم وتركيا تريد حصّة من إعادة الإعمار
أجواء الحسم تُخيّم فوق محافظة إدلب، حشود الجيش السوري لا تعترف بما تضفيه المحادثات الدبلوماسية متعدّدة الأطراف على المشهد من تعقيدٍ وغموض. ورغم أن عقدة لسان الدبلوماسية التركية انحلّت قليلاً مؤخراً، وأصبح ما يصدر عنها من تصريحات يصبّ في خانة الحسم أكثر من محاولة المُماطلة والتسويف، إلا أن ما لم تقله الدوائر السياسية في أنقرة بعد يبدو مُحمّلاً بهواجس ومطامع تريد تلك الدوائر أن تصل إلى اتفاق حوله مع الروس من تحت الطاولة قبل أن تعطي الضوء الأخضر الكامل لعودة إدلب إلى السيادة السورية من دون كلفة مرتفعة،وإلا فإن أنقرة تقرأ جيّداً بين سطور الحشود السورية غير المسبوقة في محيط إدلب، أن هناك من هو مستعد لأية كلفة مهما بلغت قيمتها في سبيل استعادة أرضه وسيادته.ويصعب التصديق أن المُحادثات السياسية والعسكرية والأمنية بين موسكو وأنقرة من جهة وبين موسكو وواشنطن من جهة ثانية، تتمحور جميعها حول الوضع في إدلب وتداعيات الحسم فيها. فمحافظة إدلب لا تشكّل أية أهمية استراتيجية لواشنطن حالها في ذلك حال الشطر الغربي من سوريا الذي رفضت واشنطن حتى التدخّل فيه، حتى لحماية حلفائها من قوات سوريا الديمقراطية إبان معركة عفرين ضدّ الغُزاة الأتراك.
وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا التي لا شك في أنها باتت في قرارة نفسها تُدرك الهزيمة التي لحقت بمشروعها في سوريا وأنه لا مصلحة لها في التمسّك بأوهامِ عفا عليها الزمن. لذلك فإن الحديث التركي حول وجود الإرهابيين في إدلب وضرورة العزل بينهم وبين "المُعتدلين" يحمل في مضامينه إشارات واضحة إلى توجّهٍ تركي نحو القبول بحسم موضوع إدلب.
وقد يرى البعض أن بعض التحفّظات التركية على آليات الحسم ومواقيته وتحذيرها من كارثة إنسانية في إدلب نتيجة عملية عسكرية واسعة هناك، تدلّ على رفض تركي لموضوع الحسم ومحاولة للتسويف والمُماطلة. لكن درس الجنوب ما زال ماثلاً للعيان ليس بسبب حداثته وحسب بل بسبب جذريّته وتقديمه نموذجاً جديداً لتسوية واحدةٍ من أكثر المناطق السورية حساسية نتيجة قربها من الكيان الصهيوني من جهة، وكون الولايات المتحدة كانت طرفاً فيها من جهة ثانية.
ففي الجنوب تمّ تفكيك المُعادلات الاقليمية والدولية بسلاسة ومن دون تصعيدٍ كان يتخوّف منه الكثير من الأطراف، كما جرى فيه تجاوز عقدة اللجوء والهجرة عبر شبكة واسعة من اتفاقات المُصالحات التي منعت حدوث أية موجة من اللاجئين في المنطقة. وما كان سبباً لإرضاء الأردن في درعا ودفع الولايات المتحدة وإسرائيل إلى تأجيل مخاوفهما بشأن الوجود الإيراني في الجنوب السوري، هو بلا شكٍ سبب كافٍ لإرضاء أنقرة ومنعها من التذرّع بإشكالات سبق للروس والسوريين التعامل معها بنجاح منقطع النظير.
الورقة الروسية التي تحمل مقترحات الكرملين لحل الوضع في إدلب حطّت على طاولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي تنتظر الردّ التركي عليها الذي يُشاع أنه سيخرج إلى النور أثناء القمّة الثلاثية لرؤساء روسيا وتركيا وإيران في طهران مطلع الشهر المقبل حسب بعض التقارير.
وحسب مصدر سوري مطّلع فإن الورقة الروسية تضمن بعض البنود لتجنّب عملية عسكرية واسعة في إدلب، أهمها نزع السلاح الثقيل من الفصائل بكافة توجّهاتها وانتماءاتها وضمان دخول الشرطة العسكرية الروسية إلى إدلب، ورفع العلَم السوري الرسمي على الأبنية والمؤسّسات الحكومية، وفتح المعابر والطرقات الدولية تنفيذاً لمقرّرات أستانا، وأخيراً القبول بالمشاركة في محاربة جبهة النصرة وحلفائها من الفصائل الرافضة للتسوية.
هذه المُقترحات الروسية تكاد تتطابق مع بنود التسوية التي قدّمت إلى فصائل الجنوب السوري وتم بموجبها تسوية الوضع هناك بأقل الأثمان المُمكنة، وهي تشير إلى أن موسكو ترى في تسويات الجنوب نموذجاً صالحاً للتكرار في الشمال السوري. وحسب المصدر السوري فإن أهم العراقيل التي تواجه هذه المُقترحات هي موضوع المُقاتلين الأجانب الذين لم تعد أنقرة تمتلك أية قدرة للتعامل معهم وإقناعهم بسيناريو شبيه بسيناريو دايتون. والثاني موضوع تطلّع أنقرة إلى حصّة في كعكة إعادة إعمار سوريا وربطها الموافقة على عودة إدلب إلى حضن السيادة السورية بإعطائها قسماً من عقود إعادة الإعمار وهو الأمر الذي ما زالت دمشق ترفضه حتى الآن.
وفيما تراهن القيادة السورية على الحشود العسكري التي زجّت بها في محيط إدلب، وعدم وجود ذريعة لأنقرة لتعطيل موضوع حسم مصير المحافظة بعد أن أخفقت في تنفيذ بنود اتفاق أستانا وأهمها إنهاء ملف التنظيمات الإرهابية، فإن أنقرة تحاول جاهدة مُسابقة الوقت ولكن ليس من أجل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والتمسّك بمشروعها "العثماني" في سوريا، بل من أجل محاولة التقاط أية مكاسب اقتصادية أو سياسية تتمكّن بها من تقوية وضعها الداخلي في ظل تدهور عملتها، ومن تعزيز موقفها الاقليمي الذي اهتزّ على وقع خلافها المُتصاعد مع واشنطن.
أما عودة إدلب إلى السيادة السورية فأمر مفروغ منه، ومَن لا يصدّق فليقرأ جيّداً كيف أن مُقدّمات ما يجري في إدلب تتشابه كثيراً مع مُقدّمات ما جرى في الغوطة الشرقية وفي ريف حمص الشمالي وفي الجنوب السوري.