لماذ لايتّعظ الطُغاة في أوطاننا من عِبَر التاريخ؟
ثم امتدت نيران الثورة من بولاق حتى شملت كثيراً من أحياء القاهرة، فهاجم الثائرون المعسكر العام للفرنسيين بالأزبكية، وكان عدد المهاجمين، كما تقدّره المصادر الفرنسية، عشرة آلاف ولكن هذا المعسكر العام كان مُحصّناً غاية التحصين تملأه الجند والذخائر، وتحيط به المدافع الكبار، فلم يستطع المهاجمون اقتحامه.
صدقت أمّ كلثوم ذات يوم عندما صدحت: "أنا الشعب لا أعرف المستحيلا ولا أرتضى بالخلود بديلا"، فشعوبنا العربية وفي القلب منها الشعب المصرى وبحق وبشواهد التاريخ شعوب ثائرة، ومن الخطأ، وأحياناً الغباء السياسي، تصوّر أن ثوراتهم بدأت فقط بالأمس، أو بدأت على أيدي هذه "الجماعة"، أو ذلك الحزب أو "الائتلاف الثوري"، إن الأمر أعقد وأقدم من هذا، ولعلّه من المُفيد لهؤلاء الذين سرقوا الثورات الأخيرة وحوّلوها إلى إرهاب منظّم، ونسبوها لأنفسهم، أن يعلموا أن الثورات الحقيقية هى إحدى حلقات الغضب المشروع لدى شعوبنا، ضدّ الفساد والظلم والتبعيّة، وأنها قد سبقتها حلقات أخرى من الجهاد، والثورة .
لقد سبق وقدّمنا نماذج من ثورات شعبنا المصري كنموذجٍ للشعوب العربية منذ الفتح الإسلامي، واليوم نقدِّم صفحات أخرى ثورية منذ الحملة الفرنسية والتي يتواكب مع هذه الأيام ذكرى خروجها مهزومة، إثر ثورة الشعب المصري عليها "دخلت الحملة مصر في 1 تموز/يوليو 1798وخرجت في 2 أيلول/سبتمبر 1801" وهي صفحات نريد بها أن نؤكّد للجميع أن ينتبهوا ويحذروا، فشعبنا يصبر طويلاً على الظلم ولكنه يثور بعد ذلك ضد الظالمين ثورة لا تُبقي ولا تَذر، وهو يثور بقوّةٍ عندما يتصل الأمر بالاحتلال الأجنبى حين يرتبط به الظلم الداخلي، ولعلّ في الثورة الكبرى لشعبنا ضد الحملة الفرنسية، ما يقدم كدليل على ذلك نهديه اليوم لأولئك الذين سرقوا الثورتين، 25 يناير 2011 و30 يونيه 2013، وتعاملوا مع الأجنبي "خاصة الأميركي" واستقبلوه، في لحظة تذاكي وخبث، متصوّرين أن شعبنا لا يراهم وأنه قد خنع من جديد، ولن يثور ثانية. ثم أدخلوه في سلسلة لا تنتهي من القهر والمُعاناة، كفيلة لوحدها لتجديد دماء ثورته القادمة.
إن قراءة جديدة في تاريخ الجبرتي عن كفاح الشعب المصري إبان الحملة الفرنسية، والشبيهة إلى حد كبير بحملات الأميركان والإسرائيليين اليوم، وبسرقتهم المتعمّدة للثورة المصرية ولكن هذه المرة عبر أيدٍ مصرية للأسف، تؤكّد لنا أن هذا الشعب مثله مثل باقي شعوب الأمّة عصيّ على الاحتواء والإكراه والخضوع للمحتل والطغاة، فالثورة في دمه وهي عند نقطة فاصلة تنفجر ولكن المحتل كما الطغاة لايتعلّمون ولا يعتبرون. ولقد صدرت كتب عدّة بعد تاريخ الجبرتي لتؤرّخ للثورة في مواجهة المحتل الفرنسي وصنائعه من الطغاة المحليين، إلا أن كتاب الجبرتي يظلّ هو العمدة في مجال التأريخ لمصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومن بين دفتّي الكتاب اقتبس العديد من المؤرّخين دراساتهم وأعادوا كتابة "جينات الثورة" لدى الشعب المصري بلغةٍ جديدة ومن هؤلاء العمل الفكري البديع للمؤرّخ محمود الشرقاوى والذي يحمل عنوان الجبرتي وكفاح الشعب – كتاب الهلال – 1966 – العدد 184، وغيرها من الكتابات المهمة.
في هذه الأعمال جميعاً سنجد أن الشعب المصري ثار على طغاته ومحتليه عندما أهينت كرامته وعزّته وعندما دخلت خيل نابليون، الأزهر وداست مقامه بسنابكها، وكأنها تدوس عقيدة الشعب وتاريخه ومن ثم تطالبه من حيث لا تدري بالانتقام والثورة، فكانت الثورة الكبرى، ويحدّثنا التاريخ بأن تلك الثورة بدأت في الحيّ الشعبي الشهير (بولاق) يوم 20 آذار/مارس 1800 حيث قام أهلها بأسلحتهم وعصّيهم فهاجموا معسكر الفرنسيين على النيل، فقتلوا من جنودهم، وشتّتوا، واستولوا على جميع ما كان فيه من ذخيرة ومؤن، ثم ذهبوا إلى مخازن الغلال التي يختزنها الفرنسيون فاستولوا عليها وقاموا بعد ذلك يطوفون بالقاهرة يقيمون حولها من الأسوار والحصون ما استطاعوا.
ثم امتدت نيران الثورة من بولاق حتى شملت كثيراً من أحياء القاهرة، فهاجم الثائرون المعسكر العام للفرنسيين بالأزبكية، وكان عدد المهاجمين، كما تقدّره المصادر الفرنسية، عشرة آلاف ولكن هذا المعسكر العام كان مُحصّناً غاية التحصين تملأه الجند والذخائر، وتحيط به المدافع الكبار، فلم يستطع المهاجمون اقتحامه.
وامتد لهيب الثورة حتى شمل القاهرة كلها، وتنادى الناس جميعاً بالكفاح والجهاد والحرب. فلبّى نداءهم الرجال، والنساء، والأطفال، حتى صار عددهم خمسين ألفاً، وعادوا مرة أخرى يهاجمون المعسكر العام، ومعهم في هذه المرة المدافع، ولما لم يجدوا لها قنابل، استعاضوا عنها بكرات الموازين من الحديد والأحجار التي يزن بها التجار والبائعون بضاعتهم، وظل هجوم هؤلاء الثائرين يوماً ونصف يوم متصلاً قوياً، حتى قدمت نجدة أرسلها الجنرال كليبر، فحاربت الثائرين من خلفهم حتى رفعت حصارهم عن المعسكر العام وكان مع الثائرين في هجومهم هذا عشرون مدفعاً ، يضربون بها المعسكر ، وبيت نابليون . وكانت القلاع التي أقامها الفرنسيون في أطراف القاهرة، وعلى مرتفعاتها، تصبّ قنابلها ونيرانها على المحاربين، والمسالمين، من العجّزة والأطفال والمرضى، في كل أنحاء المدينة. الا أن الثورة استمرت وقويت ولم يتمكّن منها المحتل وصنائعه من الطُغاة المحليين إلا بالقوة، ولكنها ظلّت قوّة إرهاب مؤقت، لأن النصر في النهاية كان حليف هذا الشعب، ويُنبئنا التاريخ أنه قد ظهرت بين المصريين في هذه الثورة، روح التكافل والتعاون عظيمة رائعة، يستوى في ذلك الغنى والفقير، والشيخ والفتى، يقول الجبرتي: "باشر السيّد المحروقي كبير تجار القاهرة الكلف والنفقات والمآكل والمشارب. وكذلك جميع أهل مصر كل إنسان سمح بنفسه، وبجميع ما يملكه، وأعلن بعضهم بعضاً، وفعلوا ما في وسعهم وطاقتهم من المعونة ، وأهل الأرياف القريبة تأتي بالميرة والاحتياجات من السمن، والجبن، واللبن والغلّة، والتبن، والغنم فيبيعونه لأهل مصر" . وقد وصف الجبرتي، وهو معاصر لهذه الثورة، ما حل ببولاق، وأهلها، وصفاً مؤثّراً يُحزِن الفؤاد، ووصف جهاد أهلها، وصبرهم، وحُسن بلائهم، وصفاً مشرّفاً تشمخ له أنوف أحفادهم، وتعلوا به رؤوسهم وتسعد قلوبهم .ونحن نترك ما قال الجبرتي، إلى ما سجّله مؤرّخ فرنسي شاهد تلك الأحداث وهو مسيو جالان. والحق ما شهدت به الأعداء.
"في يوم 14 نيسان/أبريل سنة 1800 أنذرت بولاق بالتسليم، فرفض أهلها كل إنذار، وأجابوا بإباء وكبرياء، إنهم يتبعون مصير القاهرة، وإنهم إذا هوجموا فهم مدافعون عن أنفسهم حتى الموت، فأخذ الجنرال فريان يحاصر المدينة وبدأ يصبّ عليها من المدافع ضرباً شديداً، أملاً منه في إجبار الأهالي على التسليم لكنهم أجابوا بضرب النار واستبسل الأهلون في الدفاع، ولجأوا إلى البيوت فأتخذوها حصوناً يمتنعون بها، فاضطرت الجنود إلى الاستيلاء على كل بيت فيها والتغلّب عليها بقوّة الحديد والنار، وبلغ القوم في شدّة الدفاع حداً لا مزيد بعده. وفي هذا البلاء، عرض العفو على الثوار ، فأبوا ، واستمر القتال، فجعلنا المدينة ضراماً، وأسلمناها للنهب، وصار أهلها عرضة لبطش الجنود وتنكيلهم، فجرت الدماء أنهاراً في الشوارع، واشتملت النار أحياء بولاق من أقصاها لأقصاها، وعادت تلك المدينة العامرة الزاهرة، هدفاً للخراب، وأكلتها أهوال الحرب وفظائعها. هذه شهادة الأعداء الفرنسيين!!
وبعد إخماد الثورة بثلاثة أشهر، جاء البطل السورى سليمان الحلبى "والذي تقود دولته اليوم مقاومة تاريخية منذ 2011 ضد نفس الأعداء ولكنهم متحالفون هذه المرة مع دواعش الداخل وطغاة الخليج العربي"، جاء سليمان لينتقم من الفرنسيين، وليواصل الثورة، فقتل كليبر قائد الحملة الفرنسية ومعاونه، لتتواصل بعد ذلك الثورة ويخرج المحتل ويستمر الجهاد المصري العظيم حتى يومنا هذا، وليضرب للعالم أمثلة من الجهاد بعد صبر ومعاناة، إن من يتصوّر سواء من قوى داخلية انتهازية أو قوى غربية استعمارية، أنها قادرة على خديعة هذا الشعب، وسرقة ثوراته، هم واهمون وسيفاجأون بموجة ثالثة من الثورة لكنها هذه المرة ستكون الأعنف والأكثر جذرية، هكذا هو شعب مصر، وهذا هو سرّه التاريخي، ونحسبه سرّ الوجود أيضاً لشعوبنا العربية ضدّ الطغاة والغزاة والله أعلم.