أبعد من إدلب، تركيا وروسيا والغرب

في خضم الرهانات المتعاكسة حول إدلب تحديداً وحول سوريا عموماً، ودخول باريس وبرلين على خط "المواءمات" و"الموازنات"، واندفاع واشنطن نحو تغيير أجندتها في سوريا، لصالح تدخّل عسكري وسياسي مديد وتعزيز الانفصالية الكردية، ومُعاداة إيران الخ تبدو خيارات تركيا في منزلة بين المنزلتين، وهي تتموضع في الحلفين والاصطفافين كليهما، في حيّز يمكن ملاحظته لكن من الصعب تعيينه، كما لو أن لها مصلحة في الشيء ونقيضه في آن!

بالنسبة لموسكو وواشنطن وحتى باريس يتجاوز الأمر موضوع إدلب إلى رهان كل منهما على جذب أنقرة إلى سياساته في سوريا والمنطقة

حجم الاهتمام الاقليمي والدولي بإدلب، يشعر المتابعين أنه لم يعد ثمة شيء لم تتم مناقشته، مع ذلك ثم أمور لم تأخذ حقّها بالتمام، من قبيل "التشابُه" في الخطاب السياسي حولها، وفي مبرّرات تجميد الوضع ووقف أو تأجيل عملية عسكرية لاستعادتها، والسرّ في تزايد الاجتماعات واللقاءات والقمم التي تبحث عن "آلية تنسيق" و"مواءمة" بين السياسات والأجندات حولها، إن لم يكن بهدف التوصّل إلى توافق حول "الخطوة التالية"، فعلى الأقل احتواء أيّ انزلاق مُحتَمل إلى المزيد من المواجهة. 

بالنسبة لموسكو وواشنطن وحتى باريس يتجاوز الأمر موضوع إدلب إلى رهان كل منهما على جذب أنقرة إلى سياساته في سوريا والمنطقة، وأما الأخيرة فشواغلها تتجاوز إدلب أيضاً إلى سوريا ككل، وخاصة طبيعة الحل السياسي، وخرائط النفوذ، ودور الإخوان المسلمين، وأدوار وحصص إعادة الإعمار.

يقول الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني إن ثمة توافقاً وتعاوناً كبيرين بينهما وبين أدروغان بشأن إدلب، ويسكتا عن خلافاتهما معه بهذا الخصوص أو يُهوِّنُا منها. ويرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أو متحدّثون باسمه، أن أنقرة أقرب إلى باريس والغرب منها إلى موسكو، خلافاً لظواهر الأمور، وأن روسيا لا تمتلك "كل أوراق اللعبة"، إذ أن تركيا الموجودة في تفاهم أستانة موجودة في تفاهمات الغرب أيضاً، وتقديرها للحل في سوريا قريب جداً من تقدير "المجموعة المصغّرة" التي تضمّ في صيغتها الأخيرة دول: الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والسعودية والأردن ومصر.

في الوقت الذي قالت فيه واشنطن إنها تُعِدُّ "خارطة طريق" لاستراتيجيتها في سوريا، فقد تَعَجَّلَ مبعوثُها إلى سوريا جيمس جيفري الإعلان خلال زيارته إلى أنقرة عن ملامح تلك الاستراتيجية في بُعدِها التركي قائلاً: "يتّفق الأتراك مع أهدافنا الأساسية في سوريا"، وهذا يتعلّق بـ "إخراج إيران من سوريا تماماً"، و"تهدئة الوضع العسكري في إدلب"، و"إعادة تنشيط العملية السياسية".

الأهم في تصريحات جيفري هو حديثه عن وجود "ما يقرب من 50 إلى 70 ألف مُقاتل في إدلب، معظمهم جزء من المعارضة التي كنا نعمل معها والتي لا يزال الأتراك يتعاملون معها". وهذا تلويح بإمكانية تحريك ورقة الجماعات الجهادية ضدّ دمشق وحلفائها. التصريح يسعد أردوغان لاشك، فهو يعزّز موقعه التفاوضي مع روسيا وإيران، ويجعل تفاهمه معهما أغلى ثمناً.

قال جيفري إن واشنطن وأنقرة تُعدّان لإقامة "منطقة آمِنة" في شمال سوريا، "بينما تعود وحدات حماية الشعب إلى الجانب الشرقي من نهر الفرات... ونحن ملتزمون، أولاً وقبل كل شيء، بسلامة أراضي سوريا، كدولة موحّدة". وهذا طمأنة لتركيا من جهة، وردّ على كلام لافروف من أن واشنطن تسعى لإقامة كيانية كردية شرق الفرات من جهة ثانية.

تريد موسكو أن تكون التفاهمات حول إدلب منطلقاً نحو التسوية أو الحل في سوريا، والتركيز على عودة اللاجئين، وخروج القوات الأجنبية غير الشرعية، وإعادة الإعمار؛ فيما تريدها واشنطن منطلقاً لمراجعة الموقف في سوريا ككل، وإعادة فرض أجندتها التي سبق للرئيس ترامب أن أعلنها في تغريدات على تويتر –كما قال جيمس جيفري- ثم طلب من أجهزة الإدارة والدولة العميقة تأطيرها في وثيقة أو "خارطة طريق" كما تمّت الإشارة، وتتلخّص في هدف رئيس هو إعادة تشكيل النظام السياسي والدولة في سوريا، إن أمكنهم ذلك. 

لا فائدة من القول إن الغرب مع أردوغان وضدّه في آن، ومع إمارة القاعدة في إدلب وضدّها، لأن هذا لن يضيف كثيراً إلى ما استقرّ في مدارك وأذهان المتابعين، وهو لن يساعد كثيراً في تفكيك العقد الثقيلة في الموقف حول إدلب. ثمة أمور في المشهد السوري لا تجلوها التطوّرات بل تزيدها غموضاً.

في خضم الرهانات المتعاكسة حول إدلب تحديداً وحول سوريا عموماً، ودخول باريس وبرلين على خط "المواءمات" و"الموازنات"، واندفاع واشنطن نحو تغيير أجندتها في سوريا، لصالح تدخّل عسكري وسياسي مديد وتعزيز الانفصالية الكردية، ومُعاداة إيران الخ تبدو خيارات تركيا في منزلة بين المنزلتين، وهي تتموضع في الحلفين والاصطفافين كليهما، في حيّز يمكن ملاحظته لكن من الصعب تعيينه، كما لو أن لها مصلحة في الشيء ونقيضه في آن!