انتخابات تركيا: الخسارة في إسطنبول وبداية الهزيمة
إسطنبول هي المدينة الوحيدة التي لقّنت إردوغان الدرس الذي كان الكثيرون يتوقّعونه بسبب سياسات الاستفزاز والتوتّر التي انتهجها خلال الحملة الانتخابية. فقد فاز مرشّحو حزب الشعب الجمهوري في 19 ولاية أخرى ومنها العاصمة السياسية أنقرة.
حقق أكرم إمام أوغلو مرشّح حزبي الشعب الجمهوري والحزب الجيّد المعجزة وانتصر على رجب طيب إردوغان في عقر داره إسطنبول الذي انتخب رئيساً لبلديتها قبل 25 عاماً بنسبة 25% من الأصوات بعد أن فشلت أحزاب اليسار الثلاثة آنذاك في الاتفاق على مرشّح مشترك ليصبح إردوغان بعد سنوات رئيساً للوزراء، وفي آب/أغسطس 2014 رئيساً للجمهورية. ولم تكن إسطنبول، عاصمة السلطنة والخلافة العثمانية، المدينة الوحيدة التي لقّنت إردوغان الدرس الذي كان الكثيرون يتوقّعونه بسبب سياسات الاستفزاز والتوتّر التي انتهجها خلال الحملة الانتخابية. فقد فاز مرشّحو حزب الشعب الجمهوري في 19 ولاية أخرى ومنها العاصمة السياسية أنقرة.
وتكتسب هذه الهزيمة أهمية إضافية ولأن مجموع سكان هذه الولايات يعادل أكثر من خمسين بالمئة من سكان تركيا عموماً وهو 82 مليون نسمة.
كما أن أغلبية سكان هذه الولايات هم من الطبقة المُتعلّمة، فيما أن تسعين بالمئة من الفعاليات التجارية والصناعية والسياحية والثقافية هي في هذه الولايات العشرين التي لها خصائص ومزايا أخرى مهمة سياسياً واجتماًعياً وثقافياً، وعلى سبيل المثال في مجال الفن والمسرح والسينما والانفتاح على العالم.
وتعكس هذه المعلومات أهمية الهزيمة التي مُنيَ بها إردوغان في الانتخابات لأنه قاد بنفسه الحملة الانتخابية بعد أن استنفر كل إمكانيات الدولة بصفته رئيس الجمهورية ويسيطر على 95% من الإعلام الحكومي والخاص. ولعب هذا الإعلام دوراً مهماً وأساسياً في الحرب النفسية لحملة إردوغان الذي هدّد وتوعّد قيادات أحزاب المعارضة، بل وحتى الصحافيين المعارضين بالسجن.. كما أثبتت نتائج الأحد أن أسلوب إردوغان هذا لم يكن كافياً للتأثير على مزاج المواطن وقراره الذي جاء لصالح أحزاب المعارضة التي فازت في إسطنبول وأنقرة التي يوليهما إردوغان أهمية خاصة بسبب عقيدته القومية الإسلامية العثمانية التي يتغنّى بأمجادها.
ويفسّر ذلك تبنّيه لحركات الإسلام السياسي في العالم خاصة بعد ما يُسمّى بالربيع العربي، الذي قال بعده بأنه سيُصلّي قريباً في الجامع الأموي. وبات واضحاً أن الرئيس الجديد لبلدية إسطنبول بسكانها البالغ عددهم 15 مليوناً سيقلق بال الرئيس إردوغان ويوتّر على أعصابه طيلة السنوات الأربع القادمة. ويعرف الجميع أن أكرم إمام أوغلو سيزيد من شعبيته خلال الفترة القادمة ومهما فعل إردوغان لعرقلة نشاطه وفعالياته، وهو سيستغلّ الفترة القادمة للتحضير لانتخابات رئاسة الجمهورية في حزيران/يونيو 2023. فليس مستبعداً له أن يرشّح نفسه لهذه الانتخابات التي يبدو واضحاً أنه سيفوز بها ليحقّق المعجزة الثانية، كما حقّق الأولى في إسطنبول، على الرغم من قوّة إردوغان المعروفة فهو يسيطر على جميع مؤسّسات ومرافق وأجهزة الدولة.
وكان الحديث الأهم بالنسبة للمعارضة في نتائج الانتخابات أن محاولات أتباع إردوغان للتزوير قد باءت بالفشل بسبب التدابير التي اتّخذها حزب الشعب الجمهوري وحلفاؤه. فيما فشل حزب الشعوب الديمقراطي في مساعيه للتصدّي للمُضايقات التي تعرّض لها في جنوب شرق البلاد ليكتفي بالفوز في 7 ولايات بدلاً من 11 ولاية سبق أن فاز بها في انتخابات 2014.
ويرى الكثيرون في هزيمة الأحد مؤشّراً لمرحلة صعبة وحسّاسة بالنسبة للرئيس إردوغان الذي سيُعاني من مشاكل عديدة بسبب الخسارة التي لم يكن يتوقّعها، وهو لن يتحمّلها بعد أن كان يعتقد بأنه الحاكم المُطلق الذي يستطيع أن يفعل ما يشاء بتركيا والأتراك.
وستضع هذه المعطيات إردوغان أمام تحديات جدّية في علاقته مع الخارج بعد أن تزعزعت سمعته وقوّته حيث كان يقول دائماً إنه مُنتخَب ديمقراطياً، وإن الشعب معه في جميع قراراته التي بات واضحاً بأن الشعب بعد الآن لن يكون معه، خاصة بعد أن كسر المواطنون حاجز الخوف وارتفعت معنوياتهم وسوف يزداد أملهم بالمستقبل. وقد يحمل ذلك معه المزيد من المصاعب بالنسبة لإردوغان الذي نجح خلال السنوات الأخيرة في ترهيب الناس عبر الإعلام الموالي له وبواسطة أجهزة الأمن والمخابرات التي يسيطر عليها. كما هو يسيطر على القضاء الذي وضع عشرات الآلاف من المعارضين في السجون، بمن فيهم زعماء أحزاب سياسية وأعضاء برلمان إضافة إلى صحافيين وأكاديميين وغيرهم.
وسيراهن الكثيرون بعد الآن على موقف العواصم الغربية وخاصة واشنطن وبرلين ولندن وباريس والاتحاد الأوروبي التي لن ترضخ بعد الآن لابتزازات إردوغان ورهاناته الخاسرة داخلياً واقليمياً ودولياً بعد أن أعلنت هذه العواصم وأكثر من مرة انزعاجها من نهج وأسلوب إردوغان وسياساته المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان. كما هي عبّرت عن قلقها من سياساته في دعم حركات الإسلام السياسي وخاصة في أوروبا.
ويُخيّم الغموض على الموقف المُحتَمل لموسكو التي إن تخلّت عن إردوغان أو أشعرته بأنها على استعداد للتخلّي عنه في حال استمراره في أسلوبه المعروف والرافض للحل في سوريا والمنطقة، فالأمور ستكون أسهل نحو التغيير في سياسات إردوغان الداخلية والخارجية بعد أن مُنيَ بهزيمة الأحد وهي تاريخية بكل معنى الكلمة.
ولأن إردوغان كان يتغنّى بأمجاد تاريخه العثماني وتتّهمه المعارضة بالجري خلف أحلام السلطنة والخلافة التي أثبتت انتخابات الأحد أنها لم تكن كافية بالنسبة للمواطن التركي الذي عانى ويعاني من ويلات الأزمة المالية والاقتصادية الخطيرة التي تهدّد مستقبل البلاد.
ويبقى الحديث عن أهمية الكرد ودورهم في هزيمة إردوغان، فلولا دعم حزب الشعوب الديمقراطي لما حالف الحظ مرشّحي الشعب الجمهوري للفوز في اسطنبول وأنطاليا ومرسين وأضنة وهاتاي وولايات أخرى. وباستمرار هذا التحالف فمستقبل إردوغان سيكون صعباً جداً بكل المعايير والمقاييس الداخلية والخارجية وأهمها مساعيه لأسلَمة الدولة والأمّة التركية وهو ما يتطلّب المزيد من التحالف مع إسلاميي المنطقة وخاصة في سوريا!.