يوم الأرض في القاهرة

والحقيقة كما نراها أنه أمر بغيض، أن تنجحَ الدعايةُ الصهيونيةُ إلى هذا الحدّ، وأن يعتقد كثيرون عرب ومسلمون، منهم ساسةٌ وإعلاميّون ونخب مثقفة، أن الشعب الفلسطيني قد باعَ أرضه، لا أن العدوّ قد سرقَ أرضه، ومن المخجل ألا ينجحَ الإعلام العربي في توضيح الحقيقة للعرب أنفسهم، فضلاً عن فشله في توضيحها للعالم، والحقيقة هي أَنَّ إسرائيل قتلتْ وطردتْ، من أجل إقامة دولة ظالمة على أرضٍ مسلوبة.

يوم الأرض الفلسطيني

عندما كان الأشقاء في فلسطين المحتلة يحتفلون بالذكرى الثالثة والأربعين بيوم الأرض في 30 آذار / مارس 2019 ، ويقدّمون شهداء جدداً، مثل كل عام، ويطلقون تظاهرات سلمية، التي تخلد لهذا اليوم سنوياً، إضافة إلى الإضرابات الشاملة في كافّة المناطق الفلسطينيّة، وإطلاق جداريات ومجسّمات تعبّر عن فلسطين والقدس، وحملات زراعة أشجار الزيتون في الأراضي الفلسطينية، تعبيراً عن سلميّتها، وفي تلك الأثناء، وتضامناً مع الشعب الفلسطيني، فقد قام مركز يافا للأبحاث والدراسات واللجنة العربية لمساندة المقاومة في القاهرة، بعقد مؤتمر علمي برئاسة الدكتور "رفعت سيّد أحمد"، حول تلك الذكرى التي لا تُنسى، وقد حضر المؤتمر عدّة مفكّرين وسياسيين من دول عربية مختلفة، ومن مختلف الاتجاهات السياسية والأيديولوجية مثل السياسي الشيوعي "أحمد شرف"، وأستاذة الجامعة الأميركية بالقاهرة ذات الميول الإسلامية "عواطف أبو شادي"، وأستاذ التاريخ العبري بجامعة "عين شمس" في القاهرة الدكتور "خالد سعيد"، وغيرهم كثيرون، فكانت الندوة تشمل كل ألوان الطيف السياسي والفكري، وهم المهمومون بالشأن العربي وقضية المقاومة، في فلسطين ولبنان وسوريا، ويريدون وصل ما انقطع بفلسطين، وتعريف الشباب العربي بيوم الأرض ويوم النكبة.

رأس المؤتمر المفكّر الفلسطيني الأستاذ "عبد القادر ياسين"، والذي أكّد على أن الاحتفال بيوم الأرض ضروري، حتى لا تنسى الأجيال العربية والإسلامية الجديدة ما حدث يوم 30 آذار / مارس عام 1976، عندما قامت سلطات الاحتلال الصهيوني بمصادر آلاف الدونمات من أراضي الفلسطينيين ذات الملكية الخاصة والعامة، وعندها قام الفلسطينيون بالإضراب والمسيرات في كافة الأنحاء، واُستشهد فيها ستة من الفلسطينيين وإصيب المئات، فضلاً عن اعتقال مئات غيرهم، ورغم مأساوية الذكرى، إلا أنها تظل مُلهمة للانتفاضات الفلسطينية بمسيرات العودة، في زمن الضياع العربي، وألقت الضيفتان الرئيسيتان كل من الدكتورة الباحثة السياسية الفلسطينية "إلهام أبو شماله"، والباحثة الإعلامية المصرية الدكتورة "زينات أبو شاويش" بحثين، حول مستقبل الأرض وحول القضية الفلسطينية بصورة عامة، حيث ذكرت الدكتورة "إلهام" أن المنطقة العربية وتداعياتها أدّت إلى اعتراف الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال وبسيادة الكيان الصهيوني على الجولان المحتل، وأعادت للذاكرة بداية المأساة الفلسطينية، وأن ما حدث في القرن العشرين صورة مطابقة لما يحدث اليوم، منذ إصدار "وعد بلفور" البريطاني عام 1917، عندها أسّست الحركة الصهيونية مئات المستوطنات على الأراضي العربية الزراعية المُصادرة، على مسمع ومرأى من الدول العربية المجاورة لفلسطين، والتي كانت تقع تحت الاحتلالين البريطاني والفرنسي.

ولقد ساعد الانتداب البريطاني المنظمة الصهيونية في الاستيلاء على الأرض، من دون خوف من أيّ رد فعل عربي، كما يحدث اليوم، أمّا الدكتورة "زينات أبو شاويش"، فقد فنّدت أسطورة الكذبة المشهورة، التي تقول إن الفلسطينيين هم من باعوا الأراضي للصهيونيين، ولكن قرارات منظمة الأمم المتحدة تنصّ على عودة الفلسطينيين لأراضيهم (أراضيهم وليس أرض اليهود) أي أنها تؤكد افتراء تلك الأكذوبة، التي روّجها الاحتلال وعملاؤه، وألقت باللائمة على الإعلام العربي، وذكرت أن الإعلام الصهيوني على اختلاف ميوله الدينية والسياسية، يدعم التوجّه الصهيوني، بخلاف الإعلام العربي، الذي كثيراً ما يروّج لتلك الشائعة الصهيونية.

والحقيقة كما نراها أنه أمر بغيض، أن تنجحَ الدعايةُ الصهيونيةُ إلى هذا الحدّ، وأن يعتقد كثيرون عرب ومسلمون، منهم ساسةٌ وإعلاميّون ونخب مثقفة، أن الشعب الفلسطيني قد باعَ أرضه، لا أن العدوّ قد سرقَ أرضه، ومن المخجل ألا ينجحَ الإعلام العربي في توضيح الحقيقة للعرب أنفسهم، فضلاً عن فشله في توضيحها للعالم،  والحقيقة هي أَنَّ إسرائيل قتلتْ وطردتْ، من أجل إقامة دولة ظالمة على أرضٍ مسلوبة، وتوجد كتب وأبحاث عديدة، تشرح حقائق ما جرى، وأبرز هذه الحقائق أن نسبة الذين باعوا أرضهم لليهود أقل من 1% من الفلسطينيين، وأن نسبة ما حصل عليه اليهود من الأرض- بكل الوسائل- كانت تعادل  8% فقط من مساحة فلسطين قبل حرب 1948، وكانت نسبة 92% من إجمالي أراضى فلسطين ملكاً للفلسطينيين، وإذا كانت نسبة الذين باعوا أرضهم لليهود 8%، يمثل الفلسطينيون منهم أقل من 1%، فإن نسبة 7% ، الذين باعوا أرضهم لليهود لم يكن بيعاً وشراءً، وإنما كان منحةً من الاستعمار البريطاني، كما أن نسبة أخرى من الـ7%، كانت ملكاً لعائلات لبنانية وسورية، منعتهم سلطات الاحتلال البريطاني من الذهاب إلى أراضيهم ثم صادرت تلك الأراضي لصالح اليهود، وهكذا، فإن أكثر من 99% من الفلسطينيين لم يبيعوا شبراً واحداً من الأرض، بل قام شباب الحركة الوطنية الفلسطينية باغتيال كل من باع أرضه لليهود من نسبة الـ 1%، لقد كانوا أبطالاً عِظاماً في مواجهة أسوأ احتلال على مَرِّ التاريخ...

ومن المهم أن نذكر أن هذه الذكرى، في هذا العام 2019، تتزامن مع فترة خطيرة وهامة في تاريخ الشعب الفلسطيني، فهي تأتي بعد شهور قليلة من تشريع قانون القومية العنصري الذي يمسّ بشكل مباشر بالوجود الفلسطيني في الأرض المسلوبة، كما تتزامن مع الإعلان الأميركي عن الجولان المحتل كأرض إسرائيلية، ومع استمرار نزيف الدم العربي بيد العرب والإرهاب، ومع استمرار حصار قطاع غزّة وقصفه بصورة يومية وهدم المباني وقتل الأبرياء، وتتزامن كذلك مع استمرار الانقسام الفلسطيني، ومع استمرار الاعتداءات على المسجد الأقصى، وتتزامن الذكرى أيضاً هذا العام مع اقتراب انتخابات الكنيست التي على ما يبدو ستفرز حكومة أكثر عنصرية ووحشية وسفالة مغرورة.

بقي أن نذكر أن وزارة التربية الصهيونية، تمنع إدخال ذكرى "يوم الأرض" أو "يوم الكرامة" في كتب التاريخ، للتلاميذ اليهود والعرب على السواء، كذلك لا تذكر ذكرى النكبة عام 1848 فيما يخصّ احتلال فلسطين وطرد أهلها، وتتناسى العديد من الأحداث الهامة في تاريخ الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، وذلك كله بهدف تغييب الوعي عن الجيل الفلسطيني الجديد، ورغم محاولات لجنة متابعة التعليم، والأحزاب العربية الفلسطينية والجمعيات وغيرها، لتعريف هذه المعلومات للأجيال الشابة، إلّا أن هنالك شريحة كبيرة، لا تعرف ما هو "يوم الأرض"، ولا مجزرة "كفر قاسم"، ولا "مجزرة دير ياسين"، ولا حتى النكبة، فإذا كان هذا يتعلق بالجيل الجديد الفلسطيني، فما بالنا بالجيل العربي الجديد، الذي يعيش من دون علم بتفاصيل الجريمة الصهيونية بحق العرب عموما والفلسطينيين في الداخل وفي الشتات ينتظرون حق العودة.

ولهذا نعتبر انه من واجب المفكّرين والسياسيين العرب، أن يعملوا على إيصال الحقيقة والقصة التاريخية لجميع الشعوب العربية والعالم، وبشكل خاص الأطفال والشباب، وهو ما أراد أن يفعله مؤتمر "ذكرى الأرض" في القاهرة، فقد أوصى المشاركون بعدم الاعتماد على الأنظمة في الجهاد، والبدء بضرورة إنشاء "غروب" على صفحات التواصل الاجتماعي، في "الفيس بوك" و"تويتر" ، تحت "إسم وشعار الأرض"، ليكون نواة ينضم إليها آلاف العرب والمسلمين ثم عشرات الآلاف ثم ملايين يتبنون "لوبي" عربي شعبي، يكوّنون علاقات مع الأخوة في داخل فلسطين وخارجها، على أن تكون باللغات العربية والعبرية والإنكليزية، يفضحون الصهيونية بصورة علمية، وهي تُعتبر خطوة في مسيرات العودة، ولا يمكن أن يضيع حق وراءه مطالب، وهو ما فعله مركز يافا في القاهرة في مؤتمره العلمي.. نصرنا الله بالحق والعدل.