عطب الإسلاميين المزمن
لا أحد ينكر أنّ لجماعات الإسلام السياسي حضوراً في الشارع العربي، كون هذا الشارع في أساسه يغلب عليه التدين، ويعيش اضطرابات اجتماعية واقتصادية وسياسية غالباً ما يكون للدّين دور في تهدئته وضبطه، وحمله على الصبر والتكيّف، إلاّ أن هذا الحضور العريض لجماعات الإسلام السياسي في الواقع المجتمعي، وإن منحها الحق في الوجود لكنه ليس شرطاً مؤكداً على صوابية أطروحات الإسلامين، وما يقدمونه من مشاريع وما يسلكونه من طرق في العمل السياسي.
منذ لحظات التأسيس الأولى لحركات الإسلام السياسي مطالع القرن الماضي، ابتداء بحركة الإخوان المسلمين وما تلاها من حركات وتنظيمات خرجت من صلبها أو نشأت على ضفافها، بدأ الصدام المبكر بينها وبين الدولة ثم مع المجتمع على يد بعض جماعاتها لاحقاً، ولا سيما حينما اتّجهت الشريحة الأكبر منها إلى العنف المسلح كآلية لرفع الظلم اللاحق بها أو لفرض تغيير قسري على المجتمع والدولة بعد أن فشلت جهودها السلمية في تحقيق أهدافها.
في بواكير الولادة، تشققت البذرة الأولى لفكرة الإسلاميين، وتفتحت أوراقها على مشروع، تضخمت فيه النّظرية تضخماً وصل حدّ الفلسفة أو الأيديولوجيا الغارقة في التنظير لكنّها متدنّية ومراهقة في فهم الواقع المجتمعي وفي سبر أغواره. كما حملت بُعداً غيبياً، مصحوباً بتفسيرات دينية مبتسرة، وإسقاطات معايشة مكثفة، وركنت باستعجال ودون تمحيص لفكرة اصطحاب المعية الإلهية في العمل السياسي، وتقدير آثامه بالفرز الضيق بين الصواب والخطأ في كل لحظة قرار، كان على الجماعة أن تتخذها.
وإن تبدلت وتغيرت المخرجات بين حركات الإسلام السياسي في البلدان التي توجد فيها، سواء كان في المغرب العربي أو في المشرق منه إلاّ أن البذرة واحدة، والإشكالية واحدة، والعطب واحد، ومكامن الضعف عند الجميع واحدة. فهي صورة تعكس تركيبة المجتمع العربي بشكل عام من ناحية، وتعكس الفكرة السياسية عند الإسلاميين في التعاطي مع الأحداث والوقائع. فعلى سبيل المثال، لا يمكن بحال اختزال التدافع في العلاقات الدولية وهيمنة القوى الكبرى على المجتمعات الضعيفة كحالنا في المشرق بأنه صراع بين كفر وإيمان، بين حق وباطل، بين إسلام يخشى الغرب من أن يسود العالم وبين أنظمة سلطوية "عميلة للغرب" تسعى إلى لجم الشعوب المسلمة وتفتيتها داخلياً.
لا أحد ينكر أنّ لجماعات الإسلام السياسي حضوراً في الشارع العربي، كون هذا الشارع في أساسه يغلب عليه التدين، ويعيش اضطرابات اجتماعية واقتصادية وسياسية غالباً ما يكون للدّين دور في تهدئته وضبطه، وحمله على الصبر والتكيّف، إلاّ أن هذا الحضور العريض لجماعات الإسلام السياسي في الواقع المجتمعي، وإن منحها الحق في الوجود لكنه ليس شرطاً مؤكداً على صوابية أطروحات الإسلامين، وما يقدمونه من مشاريع وما يسلكونه من طرق في العمل السياسي.
لقد وصل الإسلاميون في بعض الدول العربية وغير العربية إلى السلطة، حكموا فيها لفترة من الزمن، سواء بشراكة مع قوى أخرى أو خاضوا التجربة منفردين. بعضهم نزُع من السلطة بالقوة وبعضهم ما زال متمكناً منها. وفي كلتا الحالتين لم يكن حضورهم وأدائهم السياسي في الحكم ناقل نوعي أو حامل لإنشاء حضارة حقيقية، تتخلص من وصاية الغرب واحتقاره، أو ضرب نموذجا واضحا ومثالاً يحتذى في الترقّي والعمل السياسي، وفي التحرّر العام.
وحتى اللحظة الراهنة، لا تزال فكرة المواطنة وليداً هجيناً في أدبيات حركات الإسلام السياسي، القطرية منها والشمولية، ولم تتعزز وتتعمق في قواعد هذه الجماعات، وظلت رهينة الاستقرار أو المجال المفسوح والمرسوم لها من قبل السلطة السياسية في العالم العربي التي لا ولاء إلا لمصالحها، وتفرض وصايتها الجامعة على المجتمع، وترفض استشاراته أو مشاركته السلطة وقراراتها المصيرية. وبالتالي عند أي لحظة صراع أو صدام بين الحركة الإسلامية والنظام الحاكم، تضمر عند الإسلاميين مفاهيم الوطنية والمواطنة وتنتفش مفاهيم الغربة والمفاصلة وحتمية المواجهة على قاعدة خير مطلق مبعثه إلهي مقابل شر مطلق يريد القضاء على الإسلام. ومن هذه المفاهيم يولد الصراع وينهار البناء في نقل الإسلاميين نحو الجماعة المدنية الخاضعة لقواعد التعاقد الاجتماعي الذي أقرته الدولة الحديثة وتعاقدت عليه الأحزاب والجمعيات الناشطة في المجتمعات الحديثة.
في تقديري أن العدو اللدود لحركات الإسلام السياسي اليوم ليست دكتاتورية المستبد الحاكم ولا شمولية النظام السياسي ولا عمل السلطة المناهضة لمصالح مجتمعاتها بقدر ما هي الأفكار نفسها التي تحملها هذه الحركات التي تؤزّها أزّاً عند كل هزّة مجتمعية للانقلاب على ما راكمته من نضوج، وتحملها إلى ردّة جديدة عن المكتسبات السياسية. فالنضال السياسي ضد الظلم والاستبداد وسرقة خيرات الشعوب ومواجهة الناهبين للمال العام لا يكون بالتجريم الديني حين تبطش السلطة بهم بل بتقديم مشاريع سياسية وترويجها في المجتمع وحمل الناس عليها بالحجّة المنطقية الهادئة والسلمية، وليس بالانطواء والانزواء والانكماش للداخل بحجة أن التنظيم أهم من أي شيء آخر وبالتالي حماية التنظيم يعني حماية الدّين الذي لم يبق له من يمثله في نظر أفراد التنظيم إلا التنظيم نفسه.
قد يكون الفصل بين الدعوي والسياسي الذي شرعت فيه حركات الإسلام السياسي في دول المغرب العربي مثل العدالة والتنمية في المغرب وحركه النهضة في تونس قبل ثلاث سنوات خطوة نوعية في مسيرة الإسلام السياسي السني لأنها بذلك قامت بفك قنبلة، عادة ما كانت تنفجر في وجوه حملتها من الإسلاميين. وهي الوقوع في تكفير المجتمع والدولة إذا ما دخلوا في صراع مع النظام السياسي الحاكم. وهكذا بمجرد فصل الدعوي عن السياسي يعني أن الحركة الإسلامية بدأت تهمل أفكار التكفير، والقتل خارج نطاق القانون، والانسحاب من الالتزام بالدستور، ورفض الدولة الوطنية، وتمهد العمل لبيئة سياسية أقل اضطرابا وأكثر ثباتا وديمومة.