نصر الله وبعض نخبنا العربية
كعادته في كلّ إطلالاته، صنع السيّد حسن نصر الله في "حوار العام" عبر قناة الميادين من كلامه وحركات يديه وإيماءات وجهه ولون بشرته مادّة دسمة للتحليل والنقاش في الإعلام الإسرائيلي الذي استعرض بعضاً من تصريحاته للانتصار لجهة على أخرى داخل الصراع القائم بين حكومة بنيامين نتنياهو وبين الأحزاب والقوى المتنافسة على الحكم قبيل الانتخابات البرلمانية.
الاهتمام الإسرائيلي بكلّ كلمة نطق بها السيّد نصر الله يعكس أهمية مواقفه وصدق تهديداته وأثرها على الجبهة الداخلية. ولو لم يكن لكلامه قيمة لما ألقى له الإعلام الإسرائيلي بالاً على الإطلاق. ولما أفرد مساحة من بثّه لمقتطفات من كلامه.
يكفي أهمية أن يخرج بنيامين نتنياهو في اليوم التالي ليعلّق على ما قاله السيّد. وأن تنبري القيادات العسكرية والسياسية في إسرائيل وبعضهم باللغة العربية إمعاناً في تشويه مواقف السيّد نصر الله وتحويل بوصلة النقاش والسجال الإعلامي حول الخطاب نحو وجهات لا تخدم أصل القضية. وهو تهديد الحزب لإسرائيل في حال تمّ استهدافه في سوريا أو لبنان.
وفي الوقت الذي انشغلت فيه الساحتان السياسية والإعلامية في إسرائيل بتهديدات السيّد نصر الله، ولامبالاته بالأنفاق المكتشفة، تذهب وجهة بعض النخب السياسية العربية المعادية للمقاومة ومعها قطاع إعلامي عريض للإمعان في التشويه وإعادة تدوير الشائعات مُنتهية الصلاحية من جديد حول صحة السيّد نصر الله و"عمالته لإيران" وجرجرته لبنان إلى حرب مع إسرائيل خِدمة لطهران إلى غير ذلك من الاتهامات.
ليس جديداً أن يتعرّض الأمين العام لحزب الله لحملات تشويه منظّمة وأن يكون مادة دسمة للشائعات التي تنتشر على صفحات الجرائد الصفراء أو المواقع المشبوهة ، فهذا أمر معتاد. أمّا أن يحتفي هؤلاء بكلّ كلمة تقال ضدّ السيّد وحزبه في الساحة السياسية الإسرائيلية، فهذا مُنتهى الغرابة حيث الإسهام في حملة التشويه تتماهى مع الرغبات الإسرائيلية.
إن استشهاد بعض العرب بما قاله الساسة الإسرائيليون عن مقابلة السيّد نصر الله هو من المهانة الظاهرة، إذ ليس من المتوقّع أن يغيّر السّاسة الإسرائيليون مواقفهم من حزب الله وأمينه العام. هم يدركون أن العداوة متأصّلة. ونجاح أيّ من المشروعين (المقاومة وإسرائيل) وتمدّده يعني انكماش الآخر وتآكله تمهيداً لموته. هو صراع وجود ونفي بكل تجلّياته بين مقاومة ترهن كل نفيس وتبذل كل جهد وتقدّم كل دعم في سبيل ما تصبو إليه من منعة لتحرير لبنان من هيمنة وعربدة إسرائيلية مستمرة ومُستبيحة لأراضيه ومُنتهكة لسيادته وبين مشروع استعماري إحلالي ديني قاتل للأطفال.
قومياً، يكافح بعض العرب من أجل تبيض صورة إسرائيل وتلميع وجهها ومنحها شرعية الوجود وإلحاق كل بلاء بالفلسطينيين ، أو في أحسن الأحوال بحركتيّ حماس والجهاد وكلّ من يحمل بندقية أو يمتشق فكر المقاومة. عند هؤلاء، كلّ اعتداء إسرائيلي على الفلسطينيين سببه الفلسطينيون أنفسهم لأنهم "يحرحرون" على إسرائيل المسالمة الهادئة التي لا تريد لأحد أن يلحق بها شراً، ومن حقها الدفاع عن نفسها.
لبنانياً، يحرّضون حزب الله على الردّ على إسرائيل إذا كان صادقاً شجاعاً في ادّعاءاته وتهديداته. وفي نفس الوقت يتّهمونه بمحاوله جرّ لبنان إلى حرب مع إسرائيل. فالحزب خاطئ في كل الحالات. ويبقى "ميليشيا" مسلحة متمرّدة على الدولة ومُهيمنة على القرار السياسي الداخلي في لبنان. وأيّ حلف يعقده حزب الله مع أيّة قوة سياسية في لبنان هو حلف مشبوه ومنقوص، ولا يصبّ في مصلحة الاستقرار الداخلي، ولا في بناء الدولة اللبنانية.
في خضّم هذه الترسانات من الدوغما السياسية، من الإنصاف المطلوب القول: إن حزب الله لم يطرح نفسه بديلاً للدولة اللبنانية أو ينصّب نفسه أميناً عليها. وهو لا يكلّ عن المطالبة بتمكين الدولة من سيادتها وتسليح الجيش بسلاح غير مرهون بشروط، وأن يكون كاسِراً للردع مع إسرائيل وليس قطعاً ومخلّفات عسكرية تلقيها الولايات المتحدة الأميركية للجيش اللبناني شريطة عدم استعمالها ضد إسرائيل تحت أيّ ظرف. الدعم الوحيد الفعلي الذي تلقّاه الجيش اللبناني من الولايات المتحدة وحلفائها كان في مواجهة الجماعات المتطرّفة في جرود عرسال.