كيف تحدد العقيدة العسكرية للدولة؟
شهدت العقيدة العسكرية الأميركية تحوّلًا جوهريًا فرضه تخبّط القوات الأميركية في العراق وأفغانستان وكثرة الخسائر المادية والبشرية وانسداد الأفق نحو انسحاب مشرّف يحفظ ماء وجه الإمبراطورية.
نجد في معاجم اللغة العربية في التعاريف العامة لكلمة "عقيدة" بأنها (ما عقد عليه القلب والضمير، ويدين به الإنسان)، مع ملاحظة أن هذا التعريف لا يقتصر على العسكريين في المقام الأول، وإنما يشمل مختلف العقائد، وفي مقدمتها العقيدة الدينية. واستخدم مصطلح "النهج العسكري"، وأطلق مصطلح "العقيدة العسكرية" بشكل عام للدلالة على المستوى الاستراتيجي، وهي الإطار لجميع مستويات العقيدة العسكرية. ولزيادة توضيح هذا الإطار الغامض والتمييز بين مستويات العقيدة، فقد تم استخدام مصطلحات أخرى مثل "العقيدة القتالية" (FIGHTING DOCTRINE)للدلالة على المستوى العملياتي من العقيدة العسكرية، و"عقيدة القتال" (COMBAT DOCTRINE) للإشارة إلى المستوى التعبوي.
وبناءً على التوضيحات السابقة، تعرف العقيدة العسكرية بأنها "مجموعة من القيم والمبادئ الفكرية التي تهدف إلى إرساء نظريات العلم العسكري وعلوم فن الحرب، لتحدد بناء واستخدامات القوات المسلحة في زمن السلم والحرب بما يحقق الأهداف والمصالح الوطنية". ولو تمعنا في هذا التعريف لوجدنا أنه يغطي جميع مستويات العقيدة، ويركز على المستوى الاستراتيجي ويعطيه اهتمامًا خاصًا باعتباره أساسًا لبقية مستويات العقيدة.
إذًا فنحن أمام المصطلح العسكري العام (العقيدة العسكرية)، وذلك نحو وصف أداء الوحدات والقوات خلال الحملات والعمليات والمعارك والاشتباكات العسكرية المختلفة، وتشكّل في الأساس خطوطاً عريضة ومقترحات عملية لتقديم إطار عمل قياسي موحّد داخل المؤسسة العسكرية الواحدة تساعد على إتمام المهام المختلفة أكثر من كونها مجرّد قوانين ونظريات جامدة. كما تعمل على الربط بين النظريات والتاريخ والتجارب والخبرات العملية، وتهدف إلى تعزيز التفكير الإبداعي والإبتكاري داخل المؤسسة العسكرية لإيجاد حلول غير نمطية في مواجهة المواقف القتالية المتعددة، علاوة على إمدادها المؤسسات العسكرية بأساليب قيام القوات المسلحة بتنفيذ العمليات المختلفة ووضع دستور محدد يستخدمه القادة العسكريون وواضعو الخطط القتالية أثناء إدارتهم للمعارك.
بناء على ما سلف، فهي ليست عقيدة في شكلها الإلزامي ولا قائمة بالمهام التي يتحتّم القيام بها قصرًا وإنما خطوط عريضة لإعطاء المبادئ الأساسية حول طريقة تفكير القوات المسلحة خلال المواقف القتالية المتنوعة، وليس كيفية القتال. وعليه يتحتم على العقيدة العسكرية أن تكون حاسمة في أسلوب توصيف كيفية الأداء العسكري وفي نفس الوقت متنوعة بالقدر الذي يتيح لها استيعاب المواقف القتالية المختلفة.
أنواع العقيدة العسكرية
من الأسباب الرئيسية في عدم الإلمام بمفهوم العقيدة العسكرية بالشكل الصحيح هو القصور في التمييز بين مستويات العقيدة التي تطرقنا إليها سابقًا، والتي في مضمونها صُنفت العقيدة العسكرية إلى أنواع، لكل منها حدوده ومفهومه وخصائصه التي تميّزه عن غيره. ورغم هذا فإن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين هذه الأنواع، فلا يمكن فصلها عن بعضها البعض، ولا يمكن الاستغناء عن أحدها، لأن كل نوع مكمل للآخر، وجميعها يشكل العقيدة العسكرية في صورتها الكاملة. وعلى الرغم من كونها متميزة عن بعضها، إلا أنها تؤثر في تركيبة وتطوير بعضها بعضًا، بصرف النظر عن المستوى أو النوع أو المؤثرات أو الانسياب التقليدي لها من أعلى إلى أسفل. وبمعنى آخر "فإن العقيدة العسكرية في أدنى مستوياتها قد تفرض تغييرًا رئيسيًا على المستويات والأنواع الأعلى من العقيدة العسكرية".
أما النقطة العامة في أنواع العقيدة العسكرية فهي وجود عقيدة على مستوى الدولة، وتسمى "العقيدة الشاملة للدولة"، وغالبًا ما يحدث خلط بين هذا المستوى وبين المستوى الاستراتيجي للعقيدة العسكرية. وهذا الخلط يُعد من المواضيع الرئيسية التي تسبب الغموض حول مفاهيم العقيدة العسكرية، فالعقيدة الشاملة للدولة هي مجموعة التعاليم والقيم السامية والمبادئ السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والعلمية التي نبعت من حضارة الشعب ورسخت في وجدانه وضميره، فعندما نذكر العقيدة الأساسية للدولة، فإننا في الحقيقة نذكر العقيدة الشاملة وليست العسكرية.
وتتلخص أنواع العقيدة العسكرية في ثلاثة أنواع رئيسية هي: العقيدة الأساسية والعقيدة البيئية والعقيدة التنظيمية. العقيدة الأساسية وهي مبادئ تساعد على تحديد الإطار العام للعقيدة العسكرية على المستوى الاستراتيجي، وتقوم بتوجيهها أيضًا، ونطاق هذا النوع من العقيدة واسع جدًا، ولا تعلوه إلا العقيدة الشاملة للدولة، وعدم تأثر هذا النوع من العقيدة إلى درجة كبيرة بالسياسة والتقنية، مقارنة بالمستوى العملياتي والتعبوي من العقيدة العسكرية.
أما العقيدة البيئية فهي ثاني أنواع العقيدة العسكرية على المستوى العملياتي، وهي عبارة عن المبادئ الأساسية التي تنتهجها الوحدات الرئيسية للقوات المسلحة، لتوجيه جميع نشاطاتها العسكرية المختلفة لتحقيق الأهداف المرسومة لها. وتعد العقيدة البيئية مكملة للعقيدة الأساسية التي توجه مستخدميها إلى الأهداف العسكرية والوطنية التي ينشدونها، وهي التي تربط بين العقيدة في أعلى مستوياتها (الاستراتيجي) وأدنى مستوياتها (التعبوي).
وتتميز العقيدة البيئية بأنها أضيق نطاقًا من العقيدة الأساسية، بمعنى آخر أنها تتركز على مواضيع ضمن حدود معينة وتبرزها بتفاصيل أكثر وضوحًا، وتتأثر العقيدة البيئية إلى درجة كبيرة بمؤثرات خارجية، مثل التغيرات التقنية والتغيرات السياسية والإستراتيجية، ولهذا نجدها تتغير باستمرار. ومن أمثلة العقيدة البيئية، العقيدة القتالية للعمليات المشتركة، إضافة إلى العقائد القتالية للقوات البرية والجوية والبحرية. أما العقيدة التنظيمية فهي المبادئ الأساسية التي تتبعها التشكيلات المختلفة في أي قوة عسكرية لغرض القيام بواجباتها وإنجاز المهام المنوطة بها كجزء من القوات المسلحة.
وتعد العقيدة التنظيمية على المستوى التعبوي للعقيدة العسكرية، وهي من أكثر أنواع العقائد العسكرية تفصيلاً، فهي توضح المهام والأدوار ومبادئ الاستخدام لكل نشاط عسكري، وتتدرج في تفاصيلها إلى الطرق والأساليب والإجراءات الخاصة باستخدام أي تشكيل معين، ويتميز هذا المستوى من العقيدة العسكرية أيضًا بخصائص تكسبه طابعًا يميزه عن الأنواع الأخرى، ومن هذه الخصائص أنه أضيق أنواع العقيدة العسكرية إطارًا مقارنة بالمستويين الآخرين، وكذلك هو أكثر أنواع العقيدة العسكرية تغيرًا، نظرًا لتأثرها الكبير والمباشر بالتطورات التقنية والخبرات والتجارب الفعلية والتدريبية المستمرة.
مصادر العقيدة العسكرية
لا بد للعقيدة العسكرية من أساسات تقوم عليها، ومصدر تتغذى عليه حتى تصل إلى مرحلة النضوج، ثم تستمر لكي تفي بالغرض المطلوب. وتتلخص مصادر العقيدة العسكرية في العقيدة الشاملة للدولة التي تُعد المصدر الأساسي لجميع مستويات العقيدة بشكل عام، والعقيدة العسكرية الأساسية بشكل خاص. ومن الأمثلة على عقائد الدول، العقيدة الدينية والأيديولوجيات والأسس والمبادئ التي يضعها القادة السياسيون، وبهذا "تختلف العقيدة العسكرية باختلاف ظروف كل دولة، فلا يمكن القول إن هناك عقيدة عسكرية واحدة لكل الدول".
كذلك الدروس المستفادة من الماضي، وهي من الأساسات التي تُبنىَّ عليها العقيدة العسكرية على مُختلف مستوياتها، ويعد التاريخ العسكري مصدرًا فعالًا وناجحًا لبناء العقيدة العسكرية وتطويرها، لأنه حصيلة خبرة وتجارب تكررت. وأيضًا التطور التقني، ويلعب هذا العنصر دورًا كبيرًا في تطوير العقيدة العسكرية وتحديثها على مختلف مستوياتها، وخاصة على مستوى العقيدة البيئية والعقيدة التنظيمية.
وكذلك مصادر التهديد والتغيرات المستمرة في النظام العالمي، وينعكس أثرها بشكل واضح على العقيدة العسكرية على مختلف مستوياتها. وهناك طبيعة الحرب القادمة، الحرب المتوقع أن تخوضها الدولة، من حيث نوعها وشكلها ومستوياتها ومشروعيتها ووسائلها، فهي تحدد العقيدة العسكرية للدولة على مختلف مستوياتها. وأيضاً الإستراتيجية العسكرية للدولة، وينعكس تأثير تنفيذ الإستراتيجية العسكرية بشكل مباشر على وضع العقيدة العسكرية، ولاسيما البيئية والتنظيمية اللتين يجب تطويرهما بشكل مستمر بما يلائم متطلبات الإستراتيجية العسكرية للدولة.
وتنعكس طبيعة الدولة الجغرافية على العقيدة العسكرية بشكل مباشر، فموقع الدولة يحدد حجم تنظيماتها العسكرية ونوعيتها وطريقة استخدامها. كما أن موارد الدولة المختلفة تحدد مركزها عالميًا وسياساتها الداخلية والخارجية. ولهذا نجد أن العقيدة العسكرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بنظام الدولة، وبالأعباء الملقاة على عاتقها في قطاع السياسة الخارجية والداخلية، وبالحالة الاقتصادية والسياسية والثقافية للبلاد.
وهناك كذلك المهام الحالية والمستقبلية، حيث تعد المهام العسكرية للدولة أداة قوة وطنية في الحاضر والمستقبل، وتلعب دورًا رئيسيًا في وضع وتطوير العقيدة العسكرية على مختلف مستوياتها وبمختلف أنواعها، وذلك بما يلائم طبيعة المهام المختلفة المنوطة بالقوات المسلحة في الحاضر والمستقبل.
العقيدة العسكرية الأميركية
درس الكاتب العقيدة العسكرية الأميركية، حيث نجدها قد شهدت تحوّلًا جوهريًا فرضه تخبّط القوات الأميركية بالعراق وأفغانستان وكثرة الخسائر المادية والبشرية وانسداد الأفق نحو انسحاب مشرّف يحفظ ماء وجه الإمبراطورية. ولم يكن ذلك التحوّل بالهيّن إذ أن العقيدة العسكرية الأميركية ترتكز على جملة من الثوابت قليلًا ما حاد عنها جنرالاتها. فثقافة الاستئصال والسحق والإبادة، الوليد الشرعي لسفر تكوينها على أنقاض الهنود وجماجمهم، واعتماد أساليب شيطنة الخصم وحشره داخل «محور شر»، والقناعة بأن الولايات المتحدة «حاملة مشعل الحضارة وصاحبة رسالة»، فما سرّ هذه العقيدة؟، هل هي فعلًا وليدة تفتّق قريحة الجنرال ديفيد بتريوس وفريق عمله؟ وما هي الأسس التي تنبني عليها وأهمّ مضاعفاتها على العراق وأفغانستان؟.
نعم تجربة العراق كانت أسوأ من تجربة فيتنام، وما سمّوه بهتانًا «نجاح تجربة العراق»، إذ يخلُص البعض إلى «أن تجربة العراق أسوأ من فيتنام لسببين: أولًا، فيتنام كانت على هامش المصــالح الأميركية، في حين أن العراق يقع في قـلب منطقة مهمة جدًا بالنسبة للاقتصاد العالمي. وثانيًا، لأن الحرب في العراق لم تنتهِ بعد، بل على العكس سوف تستمر لفترة طويلة. كذلك أفغــانستان لن تكون العراق، لخصوصيات معطيات الواقع العراقي، التاريخي والطوبوغرافي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والجيوبولتيكي... فلا الجغرافيا متشابهة ولا التركيبة السكانية ولا المذهبية متقاربة، ولا انعدام العمق الاستراتيجــي والتـواطؤ والعمالة والتضييق والحصار والتعـتيم وكل ذلك الذي عانته أميركا في العراق.
كذلك يناقش الكتاب قضية هامة، وهي العقيدة العسكرية لدى كل من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاتحاد الأوروبي، والعلاقة الناشئة بين الاتحاد والحلف. والواقع أن حلف الناتو هو ممن وضع تعريفًا للعقيدة العسكرية وهو نفسه المُستخدم لدى العديد من الدول الأعضاء من دون تعديل: "العقيدة العسكرية هي مُجمل المبادئ الأساسية التي تتخذها القوات العسكرية لإنجاز مهامها، وهي قواعد مُلزمة وإن ظلت المواقف القتالية المختلفة الحكم الأساسي لاتباع أي من قواعد العقيدة العسكرية". وهي في الأساس غير إلزامية وإنما توصيفية لمُجمل الأداء العسكري، ومن ثمّ تتطلب العقلانية في اتباع ما تمليه المواقف المختلفة والمتغيرة تباعًا خلال النزاع العسكري الواحد.
ولكن ما حدث أنه مع انهيار الأنظمة والصراعات المجمدة والمتواصلة والجريمة المنظمة وتهديدات الإنترنت ونقص الطاقة وتدهور الأوضاع البيئية والمخاطر الأمنية المرتبطة بها والكوارث الطبيعية والاصطناعية وتفشي الأمراض والأوبئة وغيرها من المخاطر، فإن مواجهة هذه التهديدات بفاعلية تتطلب شراكة واسعة النطاق وتعاونًا وثيقًا بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وأحد الأمثلة على التعاون الناجح بين حلف الناتو والاتحاد الأوروبي في القضايا الأمنية، حدث في فبراير/شباط 2001، في ذروة الصراع العرقي بين قوات أمن البلاد والمتمردين الألبان المسلحين، إذ قام حلف الناتو والاتحاد الأوروبي بتنسيق المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاقية أوهريد في شهر أغسطس/آب من تلك السنة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحلفاء مطالبون ببذل مزيد من الجهود في مجالات أخرى كالتنسيق المدني-العسكري لضمان قيام المجموعات القتالية بواجبها على أكمل وجه. ولأن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي مدركان لإمكانية حدوث ازدواجية في المهمات بين قوة الرد السريع التابعة لحلف الناتو ومجموعات الاتحاد الأوروبي القتالية، فقد بدأ حلف الناتو والاتحاد الأوروبي العمل على قيام تكامل بين القوتين، بحسب الكاتب.
وعلى الرغم من ذلك، فإن برامج الاكتساب والاستثمار الحالية لا تلبـّي حاجات القوات الدولية في هذه الأيام، ويجب أن تكون أدوار الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في ذلك المجال مكملة بعضها لبعض، كما يجب العمل على تعزير التعاون بين المنظمتين ورفع مستواه لضمان تأمين المستلزمات بأسعار معقولة، يضيف الباحث. فقد أدى نشر قوات الاتحاد الأوروبي أواسط عام 2006 في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى جذب اهتمام الاتحاد إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لأنها ستكون محور تركيز جديدًا بالنسبة لأمن الاتحاد الأوروبي وامتداداته.
ومن المحتمل أن تؤدي الشراكات على المستوى العالمي إلى إقامة ثقافة التعاون الأمني بين التحالف والأطراف الأخرى، والحد من سوء الفهم والأفكار الخاطئة، وزيادة معرفة وإدراك الظروف الإقليمية الضرورية لتحضير ردود أمنية فعالة على التهديدات الحالية والناشئة.
دور حلف الناتو والاتحاد الأوروبي
وما يجب توضيحه أنه سيصبح تعاون حلف الناتو مع الاتحاد الأوروبي بمنـزلة العمود الفقري لمجتمعات أوروبية- أطلسية قوية، وذلك استنادًا إلى هذه الخلفية القائمة على توسيع التعاون الميداني مع الشركاء العالميين البعيدين جغرافيًا. لكن ما كان يحدث أحيانًا في الآونة الأخيرة يبدو تنافسًا بين المنظمتين يندرج في إطار سباق يتعلق بالمظهر أكثر مما يتعلق بالجوهر. وخلاصة القول إن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي يشتركان في نفس التحديات الأمنية الرئيسية التي يواجهانها على حد سواء. ولا شك في أن المزيد من التعاون في هذه المجالات سيكون أمرًا منطقيًا، وسيؤدي إلى نتائج أفضل بالنسبة لكليهما. وهناك كثير من الفرص المتاحة للبناء على الدروس التي تم استخلاصها من التعاون السابق بينهما، كما يجب تحديد مجالات جديدة لهذا التعاون. ويتعين على كل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي أن يعملا على رفع مستوى التعاون الفعلي بينهما، والتوافق على أجندة تجمع ضفتي الأطلسي، هذا إذا كانا يريدان إقامة شراكة أمتن وأشمل بينهما.
الباحث قام بوصف معالم رئيسية في تاريخ القيادة العسكرية بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تناول التطورات المحتملة في عقيدة كل منها.
ويعد الكتاب دليلًا مرجعيًا مفيدًا للضباط على جميع المستويات والمؤرخين، وعلماء السياسة، وصانعي القرار في مجال الأمن القومي، وللباحثين المهتمين بالشأن العسكري، ولكل من يريد تنمية فهمه بشأن أهمية العقيدة العسكرية لدى جيوش العالم على المستووين المحلي والدولي. وهنا جاء بوصف المعالم الرئيسية في تاريخ العقيدة العسكرية، ثم تناول التطورات المحتملة في عقيدة كل منها، بناء على التغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية المستمرة.
كما يقدم الكاتب للقارىء المهتم قوائم وفهارس مفصلة بالمصادر التى يمكن الرجوع إليها (عن طريق الإنترنت)، للحصول على مزيد من المعلومات عن سياسات الدول والمنظمات الدولية، وأفكار القادة العسكرين والباحثين الأكاديمين عن العقيدة العسكرية والأدبيات والوثائق الرسمية الخاصة بها .
نعم "العقيدة العسكرية" مصطلح مألوف في تاريخ الجيوش، وخاصة لدى العسكريين المحترفين، ولكنه في الوقت ذاته مُعقّد في إطاره ومحيطه وتركيبته، ولهذا فهو مجهول لدى الكثيرين. ورغم أننا نمارس مضامين العقيدة العسكرية في حياتنا اليومية بشكل أو بآخر، إلا أننا نفتقر إلى المعرفة العميقة في هذا المصطلح المهم، وذلك لإزالة هالة الغموض الكبيرة المحيطة به على مختلف المستويات العسكرية، وبالتالي لنتمكن من الممارسة والالتزام والاستفادة من العقيدة العسكرية، طبقًا للغرض الذي وضعت من أجله. فالعقيدة العسكرية موضوع إطاره كبير، يمتد عموديًا من أعلى التنظيمات السياسية في الدولة، ويتدرج حتى أدنى المستويات العسكرية، إلى أن يصل إلى الأفراد في ثلاثة مستويات هي: الاستراتيجي والعملياتي والتعبوي، رغم أنْ هناك فواصل وحدود توضح أجزاء رئيسية لهذا الامتداد العمودي الطويل للعقيدة العسكرية، وتعطي كل جزء منها طابعًا مميزًا، وتضعه وكل ما يحيط به ويترتب عليه في مستوى معين من العقيدة العسكرية. كذلك هناك مداخلات جانبية من جميع الاتجاهات تؤثر في مسار مستويات العقيدة العسكرية، وتستمر هذه المؤثرات معها على طول امتدادها من أعلاها إلى أدناها.
أخلاقيات العقيدة العسكرية
يبقى أن الكاتب أغفل جانباً مهماً، وهو إنسانيات وأخلاقيات العقيدة العسكرية، وذلك لأن العقيدة العسكرية بصفتها الجهة التي تمنح المشروعية لتلك الطريقة وتوجهها وتضبط سلوكياتها وإجراءاتها أثناء قيام القوات العسكرية بتنفيذ مهامها لكي لا تنصرف للكسب المادي للأهداف على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية. إن مصطلح العقيدة يوحي بالثبات وعدم الخضوع للتغيير لذلك فالعقيدة لن تخضع لإملاءات القوة العسكرية وتبريراتها بل إنها تضع من نفسها موجهًا ومانحًا الشرعية لما تعمله، بل ومقيدًا لسلوكياتها ضمن ضوابط وقيم دينية وإنسانية وأخلاقية عن طريق إجازة ذلك المذهب ودوافعه، وما ينتج عنه من نتائج.
والواقع أن المذهب العسكري يتغير بتغير السلاح ومداه وكثافة المعدات والتشكيلات وطبيعة الأرض وطبيعة التهديد ومدى القدرة على إدامة المجهود القتالي وغير ذلك من الأمور التي يجب على المذهب العسكري العمل في بيئاتها المختلفة. أي أن المذهب العسكري مطالب بالعمل في منطقة تقع بين عقيدة عسكرية ثابتة لا تقبل التغيير وبين طبائع وبيئات مادية صعبة التكيف أو الاستجابة، وذلك وصولًا إلى إنجاز المهام شاملة الأهداف والنتائج، تاركة السلوك الحربي محكومًا بين تلك الأهداف والمبررات الدافعة وتلك النتائج الناشئة عن الحرب. إنها تجعل من الحرب إما عملًا مشروعًا أو غير مشروع، فهي تقوم مقام الأيديولوجية السياسية أو الجانب العسكري منها في بعض الدول، وهي تستثني وحسب أخلاقياتها العمليات القتالية التي تعرض كلا الطرفين المتنازعين للفناء وتضبط أهداف ونتائج القتال وتجيز قوانين الاشتباك وتربط ذلك بقيم دينية وإنسانية، وهي تضمن عدم الدخول في مشروع قتالي ولو كان مبررًا ومشروعًا ما لم تصل تلك الدولة إلى قدر من التكافؤ في القدرات القتالية لضمان تحقيق الأهداف، وهي تضمن عدم إعلان الحرب من دون وجود تساند بين قوى الأمة المتعددة (السياسية- العسكرية- الاقتصادية- الأخلاقية- الدينية).
وفي العهد القريب رأينا أن هناك دولًا شرعت لأنفسها حروبًا حرصت على سرعة الانتهاء منها لكي لا تفقد المساندة الأخلاقية والإنسانية بل والاقتصادية أحيانًا أخرى. وهذا دليل على ضرورة دراسة مدى القدرة على إدامة التساند بين مقومات الحروب ومقومات شرعية إعلانها والقدرة على الاستمرار فيها قبل الشروع فيها.
نعم العقيدة العسكرية هي التي تحدد المذهب العسكري المشروع وتمنحه الصفة الأخلاقية والإنسانية بدءًا بالاستعدادات وبناء القوات والتدريب، وانتهاء بالعمل القتالي نفسه ونتائجه الناجمة عنه حيث يتم استثناء مجموعة الأساليب والأهداف والنتائج والسلوكيات التي تقضي على الجانب الإنساني والأخلاقي للقتال بسبب نتائجها البشعة.
من يشرع الحرب ويحدد متى ولماذا؟
ونستطيع القول بأن عقيدة الأمة في شقها العسكري وأيا كان مصدر تلك العقيدة دينيًا أو سياسيًا هي التي تملك الإجابة عن التساؤل: لماذا نقاتل؟ ولماذا يشرع للقوه العسكرية أن تتحرك للقتال وتدمر أو تقتل؟ هذه الإجابة هي من حق عقيدة الأمة/ الشق العسكري.
أما إجابة التساؤل القادم وهو (متى؟). فهي من حق مسؤولي عقيدة الأمة في جانبها أو شقها السياسي. وبعد أن يحدد الوقت الذي ستبدأ فيه القوه العسكرية بالعمل والتنفيذ أي وبعد الانتهاء من الإجابة على التساؤلين (لماذا؟) و(متى؟) تبقى الإجابة عن التساؤل الثالث (كيف؟) والتي هي من حق القادة العسكريين وصناع المذهب العسكري الذين يرسمون للقوات العسكرية والقادة الميدانيين الأسلوب الأمثل للوصول إلى الأهداف بأقل الخسائر المادية والمعنوية بعد أن يتم استبعاد -ومن خلال التجارب الميدانية- بعض الأسلحة والأساليب التي قد تعرقل القوات العسكرية وتصعّب من أدائها لمهامها ومتحاشية خرق القيود العقائدية الدينية والسياسية والأخلاقية.
لقد وثّق مؤرخو التاريخ العسكري وخاصة في الحربين العالميتين الأولى والثانية استبعاد أسلحة من الميدان بعد أن أثبتت فشلها في مواكبة الحركة والنيران اللازمة لتقدم القوات نحو أهدافها فيتم استبدالها بأسلحة تؤازر الالتزام بمبادئ الحرب والحركة والنيران، وهناك حروب تم التكتم الإعلامي فيها على الأسلحة المستخدمة والفظائع المرتكبة فيها حفاظًا على المساندة الإنسانية والأخلاقية لها ولو مؤقتًا.
العقيدة لا يجب أن تبيح القتال للاستيلاء على الشعوب والثروات والتوسع الإقليمي، أو القتال لإكراه الناس على قبول دين معين أو نظم سياسية محددة، وكذلك القتال لإكراه الناس على قبول التعايش وفق نظم اجتماعية واقتصادية محددة، أو لكسب الأمجاد الفردية أو القومية. ولأن الحرب ستنشأ عنها في الغالب إراقة دماء، والعقيد حريصة على أن تكون الدوافع والأهداف التي يشرّع من أجلها القتال أثمن من تلك الدماء التي ستراق على أرض المعركة والتي سيرخصها المقاتلون من أجلها وهي حريصة على حصر ما يراق من دماء على عناصر الجيوش المتقاتلة وإلى أن يتبين رجحان كفة المعركة منعًا للإفناء العام لقوة الخصم، ومنعًا لإهدار القيم الإنسانية والأخلاقية التي شرع بموجبها القتال. وكذلك فهي حريصة على تجنيب من لا يعنيهم القتال ويلات تلك الحروب، من استمرار في الإفناء أو تمثيل بالجثث أو اعتداء على الأعراض أو تعذيب للأسرى، بل تضع قواعد الاشتباك الضامنة لبقاء القيم الإنسانية والأخلاقية في الحرب ومن قواعد الاشتباك.
وسنجد أن مجموعة ما يسمى بأنظمة إدارة وتشغيل ميدان المعركة كنظم أساسية لتفعيل المذهب العسكري في الميدان تأتي وفق إملاءات العقيدة العسكرية تمامًا، كما تفعله وزارات الحكومة كمذهب سياسي للعمل في ميدان السياسة، وفق إملاءات الدولة كعقيدة سياسية.