منطلقات التكفير السبعة

صدر أخيراً كتاب جديد للباحث اللبناني محمد مرتضى عن مكتبة بيسان تحت عنوان: «منطلقات التكفير السبعة: التكفير والمساهمات القطبية».

كتاب "منطلقات التكفير السبعة" للباحث محمد مرتضى

يذكر الكاتب في مقدمته أن هذا الكتاب في مباحثه السبعة (الجاهلية، الحاكمية، الولاء والبراء، الخلافة، الفرقة الناجية، الاستعلاء، وحتمية الصراع) تمثل المنطلقات الأساسية في المنظومة الفكرية للسلفيات «الجهادية» للتكفير.

يقول الكاتب إن القارئ سيجد مدى الارتباط الوثيق بين هذه المنطلقات؛ اذ يصعب فصل مبحث الحاكمية عن مبحث الولاء والبراء، كما يصعب فصل مبحث الخلافة والتمكين عن مبحث الفرقة الناجية وحتمية الصراع.

ورغم أن العنوان الفرعي يشير الى المساهمات القطبية بشكل خاص الا أن الباحث ينبّه الى أنه لم يعتمد فقط على آراء سيد قطب، بل عمد «في كل مقولة من هذه المقولات الى العودة لأصولها في كتب الأقدمين، ممن يمثلون مرجعية «شرعية»؛ لأن ذلك يجعلنا نفهم أكثر كيفية تطور المصطلح، ويضيء لنا بعض الزوايا في خلفيته «الفقهية» وسيرورته التاريخية، ومستنده «الشرعي» داخل منظومة هذه الجماعات».

كتب مرتضى مقدمة طويلة نسبياً لكنها من الأهمية بمكان بسبب إطلالتها التاريخية والغنية على الاتجاهات التكفيرية التي حملت عنوان الاتهام بالهرطقة تارة وبالزندقة تارة أخرى، وأن هذه الاتجاهات لم تكن حكراً على الإسلاميين بل سبقتها اتجاهات مسيحية ويهودية بل ووثنية. وقد أضاء الكاتب على مجموعة من العوامل التي جعلت التكفير في العصر الحاضر موضع عناية وتركيز رغم أنه لم يكن حالة استثنائية في التاريخ.

الكتاب جاء في سبعة مباحث بحيث جعل الكاتب كل منطلق من منطلقات التكفير في مبحث مستقل وهي مرتبة وفق التالي:

 

  • الحاكمية: وفيها ذكر الكاتب أن سيد قطب أعاد إنتاج حاكمية المودودي من جديد، بعنف معانيها التكفيرية، وغلوّها في الرفض واحتكار الحقيقة؛ لكن بلسان عربي هذه المرة، فانتشر، بعد إعدام سيد قطب، في خطاب وسلوك جيل من إسلاميي الستينيات، الى مطلع القرن الواحد والعشرين، وهي الفترة التي شهدت بروز تيارات وجماعات تكفيرية عنيفة، تنتهج «الجهاد» والاصطدام مع الأنظمة سبيلاً لفرض فهمها للإسلام، متأثرة بنظريات المودودي وقطب في الحاكمية والشريعة والاستخلاف. وهكذا صنع سيد قطب من الحاكمية نظرية متكاملة الأركان، تنضح بالتكفير، ما دفع بالشيخ يوسف القرضاوي أن يقول في مذكراته: «هذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب ونسمّيها مرحلة الثورة الإسلامية، الثورة على الحكومات الإسلامية، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل المجتمعات الإسلامية، أو التي تدعي أنها إسلامية».

 

  • الجاهلية: يلخص الكاتب منطلق الجاهلية بالتكفير عند سيد قطب في أن المجتمعات التي تعيش فيها الأمة الإسلامية الآن هي مجتمعات جاهلية؛ لكنه لم يشبهها بالجاهلية الأولى الوثنية، بل قارنها بجاهلية الأمة الإسلامية حالياً؛ لأن الجاهلية الأولى كانت جاهلية عبادة أوثان فقط، أما جاهلية الأمة الإسلامية الآن فهي جاهلية مركبة حيث توجد قوانين ودساتير تحكم المجتمعات، وتوجد أنظمة وقوانين دولية، وهذه كلها – من وجهة نظر سيد قطب – أصنام، وبالتالي هناك الآلاف من الأصنام يعبدها المسلمون.

 

 

  • الولاء والبراء: يذكر الباحث أن أفكار سيد قطب كان لها تأثير كبير على تنظيم القاعدة، في تشكيل الفكر الأيديولوجي للتنظيم، ولا سيما تأثيره على أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، ثم تبلورت في أحكام تعتبر أن المسلمين أصبحوا في عداد المرتدين، الأمر الذي لا يعطي فقط للجهاديين «ثغرة شرعية لقتل مسلمين آخرين»، بل جعله أيمن الظواهري «أمراً واجب التنفيذ شرعاً»، في كتابه «الولاء والبراء عقيدة منقولة وواقع مفقود». وقد أوضح الظواهري أن تاريخ الأمة الإسلامية شهد صراعاً محتدماً بين قوى الكفر والطغيان والأمة المسلمة، الأمر الذي كشف عن الحاجة الماسة لإدراك خطورة عقيدة الولاء والبراء في الإسلام، ومدى التفريط والتقصير فيها، فضلاً عن مدى الخداع الذي يمارسه أعداء الإسلام بطمس معالم هذا الركن.

 

  • الخلافة: في هذا المبحث يقول الكاتب إن الخلافة الإسلامية تعيش في الأفكار لا على أرض الواقع؛ منذ أن أعلنت تركيا حلّها عام 1924. ومنذ ذلك الوقت، يسعى الإسلاميون بمختلف توجهاتهم الى إعادة إحيائها. ولعل كلمة إحياء المتداولة، تعبّر عن واقعها الذي هو أشبه بالموت السريري. ولا تعبّر المساعي لإعادة العمل بالخلافة عن توجه ديني يرتبط بضرورة العمل بالأحكام الدينية وتطبيقاتها فحسب، بل ربما تعبّر أيضاً عن حنين الى أمجاد خلت، وإمبراطورية وصلت الى أقاصي آسيا وعمق أوروبا، الى جماعات كانت «متبوعة» لا «تابعة»، و«قاهرة» لا «مقهورة». ومن هنا تعتبر هذه الجماعات أن إقامة الخلافة من جديد سيعيد للأمة «نهضتها وحضورها».

 

 

  • الفرقة الناجية: تعتبر أحاديث الفرقة الناجية والتنظير للعصبة المؤمنة في مضمونها أنّ هذه الفرقة هي من تمتلك الحقيقة وحدها، وهي التي تمثّل الصواب. أما غيرها فهو الباطل ولا شيء سواه. تنطلق جميع الحركات التكفيرية من هذه النقطة، وتعتبرها بمثابة المسلمة التي لا تحتمل الخطأ. ولذلك، لا تنظر هذه الجماعات إلى الآخر بوصفه إنساناً أو شريكاً في الإنسانية، بل بوصفه حالة شاذة ومفسدة في الأرض ينبغي اجتثاثها، والحكم على أنه من أهل النار يبرر، من وجهة نظرهم، استعمال العنف كأداة للتغيير من حيث إنه «وسيلة إلهية» يستعملها الخالق في الحياة الأخرى. فيستمد العنف، والحالة هذه، مشروعيته من «العقوبة الإلهية».

 

  • الاستعلاء: يُرجع الدكتور مرتضى في كتابه الشعور الاستعلاء عند الجماعات «الجهادية» الى اعتبار أنفسهم أنهم «الفرقة الناجية» بين البشر متأولين قوله تعالى:﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

من الناحية العملية، يرتبط الاستعلاء بامتلاك القوة، والشعور بالتفوق، العسكري منه والاقتصادي؛ بينما يرتبط فكرياً ونظرياً بالشعور بامتلاك الحقيقة. يفضي البحث التاريخي الى أن فكرة الاستعلاء النظري قد رافقت حركات الإسلام السياسي منذ بداياتها، مع غلو في ادعاء امتلاك الحقيقة والمزاعم المرافقة لها، في كونها تمثل «العقيدة الصحيحة» و«الفقه القويم» بناء على العودة الى «السلف الصالح»، أمام ما تسمّيها هذه الحركات بـ«خرافات» الصوفية «وضلالات» الأشعرية «وبدع الرافضة» والاتجاهات «العقلية» للفقه الشافعي والحنفي.  ويعتبر «الاستعلاء» من المنطلقات التكفيرية السبعة التي اعتمد عليها الاتجاه التكفيري، وينظّر لها أصحابها، لا سيما مع إضافات سيد قطب، انطلاقاً من قوله تعالى:﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾؛ حيث اعتبر سيد قطب أن الآية تخاطب الفئة المؤمنة، باعتبار أن عقيدتهم أعلى، ومنهجهم أعلى، ودورهم أعلى، فهم الأوصياء على هذه البشرية، والهداة لها، ومكانهم في الأرض أعلى.  والواقع أن «عقيدة الاستعلاء» لا يمكن دراستها بمعزل عن فكرة «الفرقة الناجية»، الواردة في بعض النصوص الدينية، والتي تعبّر عن مضمونها «أدبيات» سيد قطب بـ«العصبة المؤمنة».

 

  • حتمية الصراع: يعتبر المؤلف أن مفردة «الصراع» بصفته حتمياً، ليست مفردة للسلفيّة الجهاديّة خاصّة، وإنما «هي مادة مستحدثة في الفلسفة السياسيّة الحديثة والمعاصرة، وتحديداً في أدب الإيديولوجيات الراديكالية التي سادت في القرن العشرين: كالماركسية، والفوضوية، والوجوديّة؛ حيث تحوّلت إلى مصطلح تتميّز به الحركات المناهضة للأنظمة، والجماعات التي تنتهج العنف سبيلاً للتغيير. وقد سبق لهذا المصطلح أن احتلّ حيّزاً ملحوظاً في فلسفات التاريخ، فهو عند بعضها يعبّر عن واقع موضوعي يدفع حركة المجتمع والتاريخ باستمرار، خصوصاً بعد أن نُظّر لها في الفلسفة الهيغيلية بالمعنى الأعم، في مفردات الأطروحة والطباق والتناقض، ثم لدى وريثتها الماركسية؛ حيث اتخذ معنى أخص في مفردة الصراع الطبقي، وكان لهذه الفلسفات الصراعية أثر في الأنظمة السياسيّة التي نتجت عنها، كالشّيوعية والنازيّة والفاشيّة، والفوضويّة ممثلة في "برودون"».

ويتابع الكاتب بالقول بأن «السلفيّة الجهاديّة تسبغ على نفسها مشروعية الإسلام التأسيسي ذاته، على أنها الوريث الشرعي لمنهاج النبوة والسلف الصالح، وأنّ صراعهم الحتمي ضد العالم الجاهلي تحت عنوان الجهاد المستمر، يستمد أحقيّته من تلك المرحلة النبويّة وسلفها الصالح، ونص الصراع الحتمي، يستعاد الآن على أيديهم من جديد استجابة لوعد ووعيد آيات الجهاد والقتال في القرآن وأحاديث الفرقة الناجية أو المنصورة في السنة، باعتبارهم جماعة مصطفاة وأنهم «جيل قرآني فريد» على حد تعبير سيد قطب، تمثّل الحقيقة المطلقة من لدن الوحي والنبوة الخاتمة».