وثيقة ثقافية عن نجيب محفوظ

يؤكد مدير مكتب عبد الناصر سامي شرف أن الرئاسة تلقت فعلًا مطالبات بإيقاف نشر الرواية، لكن جمال عبد الناصر رفضها. وأضاف شرف أن هيكل "لم يكن يتصرف من دماغه"، ولولا دعم عبد الناصر لما اكتمل نشرها.

سيرة جديدة في ذكرى نجيب محفوظ

بمناسبة ذكرى رحيل صاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ صدر كتاب "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة" للكاتب الصحفي محمد شعير عن دار العين في القاهرة.

الكتاب يتحدث عن رواية "أولاد حارتنا"، التي تعتبر من روايات محفوظ الأساسية إن لم تكن أهمها. ومن أين ولدت فكرة الرواية منذ عام 1934 وكيف كتبت ونشرت عام 1959 ولماذا منعت، وما دار في كواليس السلطة المصرية. وكيف واجه الأزهر الرواية؟

صحيح أن رجاء النقاش ومحمد سلماوي وجابر عصفور وجمال الغيطاني وغيرهم العشرات من الجنود المجهولين، كانوا السابقين في الكتابة عن نجيب محفوظ وأدبه، إلا أن محمد شعير يتميز في سفره "أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة" الذي قضى سنوات في البحث عن كل ما يخص الرواية، أنه استعان بالعديد من الدوريات والصحف، والوثائق إضافة إلى كتب وحوارات محفوظ، وبعض الكتب التي تناولت سيرته، وكذلك المقابلات الشخصية، وتقصى الخطابات الدينية والأدبية والسياسية المختلفة وأطرافها ومتابعة الآراء النقدية حول الرواية وصراع التأويلات الأيديولوجية والدينية حول شخوصها، وذلك من خلال مقاربة تحقيقية اتسمت بالدقة والتوثيق الدقيق. وهذا ما حدا بأحد الصحفيين أن يعتبر كتابه هذا "أكبر وثيقة ثقافية عن أولا حارتنا بل عن عصر كامل منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى ما بعد رحيل محفوظ".

أروع ما في الكتاب المكوّن من  سبعة عشر فصلًا إضافة إلى فصل الملاحق والوثائق، والذي يصنف ضمن ما يسمى "تاريخ الأدب"، أنه استخدم "المنهج التاريخى" وبذل "جهداً استقصائياً" كبيراً لجمع مادته، وأجرى "تحقيقاً وثائقياً صحفياً" سرد فيها حكاية "أولاد حارتنا".

عرف محمد شعير كيف يخط طريقه في عالم الصحافة، فلم يحيد عن هدفه بكتابة الشعر أو رواية، واكتفى بلقب الصحافي. لكن الصحافي الذي "بات جهده محسوساً، وهو يواصل نضجه في تعميق مسار الصحافة السردية التي تعد طوق النجاة للصحافة" كما يحلو لصديقه عزت قمحاوي أن يصفه، ويعيد الاعتبار لمهنة المحرر الثقافي التي تكاد تنقرض، وللبحث الاستقصائي الثقافي.

لقد نال هذا الأسلوب/ الفن اعتراف مؤسسة نوبل، فمنحت جائزة الأدب عام 2015 للبيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش. فقبل ثلاث سنوات أثيرت ضجة واسعة حول فوز الكاتبة الصحافية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش بجائزة نوبل في الآداب عن كتبها التي تتناول الحرب والمعاناة في روسيا بحس صحافي إبداعي، قائم على جمع الشهادات وتعدد الأصوات. وآنذاك اعتبر فوزها توسيعاً لمفهوم الأدب المتجاوز للأشكال التقليدية، كالشعر والقصة والرواية والمسرحية.

يرى شعير أنه منذ نشر رواية "أولاد حارتنا" التي كانت أول رواية ينشرها نجيب محفوظ مسلسلة في الصحف على حلقات في الأهرام أن "أولاد حارتنا" كانت أشبه بساحة المعركة التي تتصارع فيها أجنحة السلطات السياسية والدينية والثقافية، ولأننا في العالم العربي نعيش في زمن دائري ما أن يظهر أي شيء يخص الرواية تتجدد الصراعات مرة أخرى، وكأننا رغم مرور كل هذه العقود ما زلنا نعيش في الزمن الذي بدأ فيه نشرها 21 أيلول/ سبتمبر عام 1959. وبذكائه الصحفي قرر رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل نشر فصولها يوميًا لا أسبوعيًا كما جرت العادة، حتى لا تتاح الفرصة لأحد أن يوقف نشرها.

ويسأل شعير سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر إن كان ناصر قد قرأ المخطوط قبل النشر، فيجيبه: إنه كان حريصاً على قراءة محفوظ لكنه لم يقرأ مخطوط أولاد حارتنا. ويؤكد شرف أن الرئاسة تلقت فعلًا مطالبات بإيقاف نشر الرواية، لكن جمال عبد الناصر رفضها. وأضاف شرف أن هيكل "لم يكن يتصرف من دماغه"، ولولا دعم عبد الناصر لما اكتمل نشرها.

ويشير شعير في كتابه أن التفسير السياسي ربما كان أخطر على الكاتب من التفسير الديني، في وقت كان من السهل فيه أن يُلقى بأي كاتب في السجن. ولكن بعد موت عبد الناصر وفي ديسمبر/ كانون أول 1975، تخلّى محفوظ عن تحفظه وتحدث عن الملمح السياسي في الرواية في حوار له بجريدة القبس "بدأت أشعر أن الثورة التي أعطتني الراحة والهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، وخاصة من خلال عمليات الإرهاب والتعذيب والسجن، ومن هنا بدأت كتابة روايتي الكبيرة "أولاد حارتنا" التي تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات. كنت أسأل رجال الثورة: هل تريدون السير في طريق الأنبياء أم الفتوات.

يكشف شعير في فصلٍ خاص عن خلفيات علاقة محفوظ بالجماعات الإسلامية وصراعاته معهم قبيل حادثة محاولة اغتياله، وكيف كانوا يترصدون أي رواية له ويتهمونه بالكفر ونشر الإلحاد، كما يذكر أنه في نفس التوقيت تقريباً كان مناخ الإرهاب والتهديد بقتل المفكرين قد انتشر في مصر، لا سيما بعد حادثة اغتيال "فرج فودة" عام 1992 بعد مناظرته الشهيرة مع الشيخ محمد الغزالي، كما كان "نصر أبو زيد" يواجه محاكمة على أبحاثه العلمية عن الإمام الشافعي التي رأى البعض أن فيها تطاولًا على الدين الإسلامي، بل أقيمت ضده دعوى قضائية باعتباره مرتداً ويجب التفريق بينه وبين زوجته، في الوقت الذي أقام فيه عدد من المواطنين استجوابات لعدد من الإصدارات الأدبية المنشورة في ذلك الوقت باعتبارها إصدارات جنسية غير لائقة.

وفي فصل بعنوان "كيف يقرأ المشايخ الأدب"، يستقصي شعير رحلة الرواية في دهاليز الأزهر ولجانه، ومن حسن الحظ أن أديباً كان حاضراً بينهم، هو سليمان فياض الذي كان طالباً بالأزهر، وكان موعوداً من الشيخ محمد الغزالي بتعيينه إماماً لمسجد السيدة زينب، لكنه رفض هذا المكان الذي يدر مبالغ طائلة من صندوق النذور، موقع "تتقطع دونه الرقاب" بتعبير الغزالي. بالطبع فضَّل فياض الأدب، وصار كاتباً وشهادته حول الرواية مثيرة، فيها ما فيها عن الترصد وتكتلات المشايخ ضد الرواية.

ظلت رواية "أولاد حارتنا" أو بالأحرى الفهم الخاطئ لرواية "أولاد حارتنا" كالكابوس الذي يطارد محفوظ طوال حياته، وربما حتى بعد موته. يقول شعير "تأثر نجيب محفوظ كثيرًا بسبب الرواية، فقد منصبه، وتعرض لاتهامات بالكفر، والطعن فى دينه، حتى جائزة نوبل ذهب البعض إلى أنه أخذها بسبب رواية تطعن فى الألوهية، وتدعو لإلحاد المجتمع".

 يرصد شعير التواريخ البارزة في حياة محفوظ؛ 13 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1988، يوم حصوله على جائزة نوبل، رغم فخر العرب والمصريين بحصول كاتبهم على هذه الجائزة الرفيعة، ظهرت أصوات تزعم أنه حصل عليها بسبب الرواية التي تتطاول على الأديان.

في 14 تشرين الأول/ أكتوبر 1994، يتعرّض محفوظ لمحاولة اغتيال من شاب لم يقرأ الرواية، ولكن أطاع أوامر شيوخه. في نص التحقيق مع محفوظ الملحق بالكتاب يتحدث الكاتب عن تشابه رمزيته في الرواية برمزية كليلة ودمنة، وكأنه يقول يائسًا إنه لم يفعل شيئًا سوى التواصل مع التراث الإنساني.

في يوم جنازته خرج لتوديعه شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي ومفتي الجمهورية علي جمعة، ورغم عدم ردهما المباشر على سؤال إذا كانت وفاة محفوظ فرصة للتصالح بين المؤسسة الدينية وأعمال محفوظ، إلا أنهما تعرضا للانتقادات لحضورهما الجنازة. واعترض شاب على الصلاة لأن محفوظ "كافر".