عن العالم الذي ينتحر لاهياً

يقول البابا فرنسيس إن العالم على شفير الانتحار. الخطر الذي يشير إليه البابا يتخطى ما يمكن أن يأتي به تنظيم إرهابي مثل داعش، او حتى كل الحروب التي حدثت او التي من الممكن أن تحدث مستقبلاً. العالم ينتحر فعلاً. كيف ولماذا؟

صورة تصور مدينة لندن غارقة
حرائق هائلة لم نعرفها سابقاً. فيضانات تجرف قرىً بأكملها. أمطارٌ غزيرة في مكان، وجفاف تام في أماكن أخرى. ارتفاع منسوب المياه في المحيطات، واختفاء بحيرات وأنهار في مناطق أخرى. الفصول التي لم تعد كما كانت وفقدت خصائصها. بلدان الفصول الأربعة التي لم تعد كذلك. أنواع المخلوقات التي تختفي كل يوم. حرارة استثنائية مقابل برودة استثنائية. هذا كله، وأكثر منه بكثير، هو الانعكاس الملموس اليوم لأزمة البيئة العالمية، وتحديداً بعض نتائج الاحتباس الحراري الذي بات يشكل خطراً وجودياً داهماً على العالم ومن يعيش فيه.

لم تبدأ قصة التلوث البيئي اليوم، بل كانت موجودة على الدوام ومنذ بدأت يد الإنسان تبحث في الطبيعة عن ما يؤكل أو يلبس أو يسكن أو يتزين به. ولكن القرنين الأخيرين شهدا بشكلٍ متصاعد أكبر تدميرٍ منظم للنظام البيئي العالمي، ولأبسط أسباب الحياة على الأرض.

فمنذ بدأ الإنسان بحرق الفحم والخشب، وتالياً النفط الغاز، تحول الدمار المتسارع إلى وحش يأكل البيئة التي يعيش فيها، ويقضي على أبناء جنسه في أفقٍ منظور لا يتعدى القرن الذي نعيش فيه.

لقد شهد العالم منذ الثورة الصناعية في أوروبا، وبشكلٍ محموم أكثر مع مرور السنوات، إطلاق كميات هائلة وغير مسبوقة من المركبات الكيميائية السامة في الهواء، مثل أول وثاني أوكسيد الكربون، وأوكسيد النيتروجين، وبخار الماء، والميثان، ومركبات الفلور والكلور وغيرها. وتسمى هذه المواد مجتمعة "غازات الدفيئة" التي يؤدي تكثفها في الغلاف الجوي إلى تحول الأرض إلى مكانٍ غير قابلٍ للحياة. متى؟ خلال القرن الحالي إذا لم يتخذ العالم أجمع وضع الطوارئ القصوى.

كيف تؤدي الدفيئة إلى رفع حرارة الأرض؟

تمتص الغازات الصاعدة من الأرض الأشعة تحت الحمراء داخل غلافها الجوي، وبذلك يتحول أثرها إلى ما يشبه الزجاج الذي يرفع حرارة ما تحته عند تعرضه لحرارة من أعلى. ويؤدي وجود هذه الغازات ضمن الغلاف الجوي للأرض (بشكل أشعة ما تحت الحمراء) إلى ارتفاع حرارة الأرض بسبب خاصية الإمتصاص للأشعة ما تحت الحمراء التي يمتلكها الغلاف الجوي. ومع احتباس الحرارة ضمن الغلاف الجوي وعدم تشتتها، بدأ الحديث عن ظاهرة "الاحتباس الحراري".

ومع أن غازات الدفيئة ضرورية لإبقاء الكوكب قابلاً للحياة على سطحه، إذا من دونها قد تصل درجة حرارة الأرض إلى حوالى العشرين تحت الصفر، غير أن تصاعد نسبتها إلى بات يهدد الكوكب فعلياً.

إن التقدم الصناعي، واعتماد مصادر الطاقة الأحفورية بشكلٍ متهور، والنهم إلى النمو الذي تمارسه الدول، وبالأخص الصناعية الكبرى منها؛ ساهموا جميعاً بازدياد انبعاثات الدفيئة، التي بدأت آثارها بالظهور منذ عقود، على شكل ذوبانٍ مطرد للجليد، وتصحر في مناطق أخرى، إلى درجةٍ دفعت بالمركز الأميركي للمعلومات إلى القول إن عشرون في المئة من ثلوج المحيط المتجمد الشمالي قد اختفت خلال عامين فقط. في حين يتوقع علماء أن يخلو كامل القطب الشمالي من الثلوج خلال حوالى 25 سنة من الآن فقط. الأمر الذي قد يعني تحول المحيط المتجمد إلى محيط ماء سائل متصل ببقية المحيطات، إضافة إلى رفع منسوب هذه المياه المتصلة. وكترجمة بديهية لهذه التوقعات ستختفي مدن ساحلية بأكملها، كما ستختفي الجزر ودلتا الأنهار، ومنها مناطق ومدن شهيرة. كما أن ذوبان الأنهار الجليدية سيكون كارثةً لأنها مصدر مياه الشرب لجزءٍ كبير من سكان الأرض.

تتحمل الدول الصناعية الكبرى مسؤولية رئيسية في تلويث المناخ، وعلى رأس الملوثين تأتي كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين، ثم الدول الأخرى التي يقوم اقتصادها على الصناعة، والتي تستخدم كميات أكبر من الوقود، وبالتالي تنتج كميات أعلى من الغازات الناجمة عن احتراق هذا الوقود.

فقد تخطت نسبة ثاني أوكسيد الكربون الموجودة في الجو النسبة الطبيعية المحددة بين 250 و275 جزءاً من المليون، لتصل إلى ما يفوق 380 جزءاً منه، وما زالت ترتفع. الامر الذي أدى إلى ارتفاع حرارة الغلاف حول الأرض، وبالتالي ارتفاع حرارة الأرض بمقدارٍ يصل إلى 3 درجات حتى الآن.

أكثر من ذلك، يجمع العلماء على عدم القدرة على تحديد المخاطر الكاملة للتغيرات المناخية، ولكنهم يؤكدون أن إمكانية حدوث كوارث كبرى -مثل الأعاصير التي لا يمكن إيقافها- باتت مرتفعة جداً، وترتفع أكثر في حال عدم اتخاذ الاجراءات الضرورية التي أشارت إليها المؤتمرات ذات الصلة.

(لمعلومات أكثر شاهد الفيديو المرفق من إعداد مجموعة علماء أميركيين)

وثائقي صادم لعلماء أميركيين حول تغير المناخ

الحركة البيئية المضادة

صورة تظهر أهرامات الجيزة غارق بفعل فيضان
لقد تنبه الكثير من العلماء والنشطاء البيئين والمثقفين إلى خطورة ما الأزمة البيئية منذ خمسينيات القرن الماضي على الأقل، وأطلقوا حملات متتالية لنشر الوعي بين قادة العالم بدايةً، ومن ثم إلى الجماهير التي لم تكن بعد على اطلاع على فداحة النتائج الآتية.

وانطلقت مبادرات منظمة خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، لإيجاد معالجات حقيقية، وإقناع القادة المنشغلين بالصراع على النفوذ، وأولئك المهووسين بتحقيق أعلى مستوى من النمو الاقتصادي، بفكرة واحدة مفادها: إن العالم الذي تتقاتلون عليه، يموت.

ومع أن التلويث للكوكب مستمر، إلا أن مستوى الوعي حول المخاطر البيئية بات أعلى على المستوى الرسمي والشعبي في الدول الغربية، وقد تبنت الأمم المتحدة مبادرات المجتمع البيئي وتوجته صدور قرارٍ من الجمعية العامة في الشهر الأخير من عام 1983، كلف على اثره أمين عام الأمم المتحدة خافيير بيريز دي كويلار، رئيسة وزراء النروج غرو هارلم برونتلاند بتشكيل "اللجنة العالمية للتنمية والبيئة"، والتي أصدرت في العام 1987 تقرير "مستقبلنا المشترك"، بهدف مواصلة النمو الاقتصادي العالمي من دون إلحاق الضرر المميت بالبيئة، وتعريض الأجيال القادمة لمخاطر بيئية، ولمخاطر نقص الموارد الأساسية لحياتهم. فوضع التقرير تعريفاً لمفهوم "التنمية المستدامة" الذي أصبح يستخدم كثيراً منذ ذلك الحين، والذي يعني الاستجابة لحاجات الحاضر من خلال "التنمية التي تلبي هذه الاحتياجات، من دون أن تعرض للخطر قدرة الأجيال التالية على إشباع احتياجاتها".

 

 

بعد تقرير برونتلاند، شهد العالم نشاطاً متصاعدا باتجاه التوعية والعمل من أجل انتهاج سياسات صديقة للبيئة، فعقد أول منتدى دولي للحكومات والعلماء حول تغير المناخ في تورنتو بكندا عام 1988، وتلاه تقرير تقييمي من الأمم المتحدة حول تغير المناخ، ومفاوضات حول الحد من هذا التغير، وافقت بنهائيتها الدول الصناعية على العودة إلى مستويات عام 1990 بخصوص انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. ثم نظمت الأمم عام 1992 مؤتمر "قمة الأرض" في ريو دي جنيرو بالبرازيل، بعد عشرين عام على أول مؤتمر بيئي عالمي، وكان هدف المؤتمر مساعدة الحكومات على إعادة التفكير والتنمية الاقتصادية، وإيجاد السبل الكفيلة لوقف تدمير الموارد الطبيعية وتلوث الكوكب. وفي العام 1995 عقد مؤتمر برلين للحد من غازات الدفيئة، وتلاه بعد عام مؤتمر جنيف، ثم أتى مؤتمر "كيوتو" في اليابان عام 1997 ليشكل محطةً رئيسية في جهود خفض انبعاثات الدفيئة، والذي خرج عنه "بروتوكول كيوتو" (نص البروتوكول بعدة لغات) الذي يلزم الدول الصناعية الأكثر تلويثاً للغلاف الجوي بخفض انبعاثات غازات الدفيئة. وتلت هذه المحطة اجتماعات في بوينس أيرس بالأرجنتين لإقرار خطة العمل، وأخرى في بون بألمانيا، وبعدها في "هيغ" بنيوزيلند. وفي العام 2001 أعلنت الولايات المتحدة عدم مصادقتها على الاتفاقية الموقعة في كيوتو. وفي العام 2002 التأمت "قمة العالم" في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، وبعدها بعامين صادقت روسيا البرتوكول الذي دخل حيز التنفيذ في العام 2005.

لقد هدف البروتوكول إلى الحد من التغير المناخي من خلال إلزام الدول الصناعية، المشار إليها فيه بخفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة الستة بنسبة 5،2% دون مستوياتها عام 1990، وذلك خلال السنوات العشر التالية لبدء التطبيق. أي إلى خفض ما يصل إلى 60% من نسبة الكربون لاستعادة توازن المناخ. وصادقت عليه معظم دول العالم، بما في ذلك كندا والصين والهند واليابان وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي. غير أن دولاً أخرى لما تصادق، وأهمها الولايات المتحدة الأميركية أكبر الدول التي تطلق غازات الدفيئة. حتى وصل عدد الأطراف الموقعين اليوم على البروتوكول إلى 192 طرفاً.

وبعد نهاية فترة الالتزام الأولى عام 2012، بدأت فترة الإلتزام الثانية بالبروتوكول في اليوم الأول من عام 2013، على أن تنتهي في العام 2020. وتم تعديله لتحقيق نتائج أفضل بحلول عام 2030.

كيف يمكن للأفراد المساهمة في تجنب موت الكوكب؟

إن الجهود الحكومية والعالمية لا تكفي وحدها للحد من المخاطر الناجمة عن التلوث البيئي، بل إن للقطاع الخاص، والقطاع الأهلي، والأفراد، أدواراً مهمة في هذه المعركة. فالتنمية المستدامة تهدف إلى تحقيق الاستخدام الرشيد للموارد الناضبة والحفاظ عليها للأجيال القادمة، مع التقليل من مخاطر الاستخدام الحالي لها. وذلك استناداً إلى أن للبيئة قدرة محدودة على إعادة إنتاج نفسها ومواردها بدرجةٍ متوافقة مع سرعة الاستهلاك. وهي تدعو إلى الاستمرار في تطوير الاقتصادات ونموها، ولكن ضمن ضوابط، للإنسان العادي دور فيها.

وإذا أردنا تحديد مساهمة الأفراد العملية في هذه المعركة، فإننا ندخل إلى تفاصيل سلوكهم اليومي، ونشر الوعي حول النقاط التالية:

-       الاقتصاد قدر الإمكان في استخدام الطاقة غير المتجددة.

-       مطالبة المسؤولين في دولهم بسياساتٍ صديقة للبيئة، وضمين خياراتهم الانتخابية هذا الاهتمام.

-       استخدام سيارات صديقة للبيئة.

-       استخدام النقل المشترك، والتنقل الجماعي بدل التنقل الفردي، توفيراً لحرق الوقود وتقليلاً من الانبعاثات السامة. واستخدام الدراجات الهوائية أو السير على الأقدام في التنقلات التي يمكن فيها ذلك.

-       المحافظة على حالة المحركات التي يستخدمونها، وإبقائها ضمن درجة كفاءة عالية.

-       عدم قطع الأشجار.

-       استخدام الأجهزة المنزلية الموفرة للطاقة، بما في ذلك أدوات الإضاءة.

-       إستخدام مصادر الطاقة المتجددة كقوة الرياح والطاقة الشمسية.

-       إطفاء الانوار غير اللازمة بصورةٍ دائمة، في المنزل وعند الخروج منه على حدٍ سواء.

لتضامن عالمي في مكافحة التغيرات المناخية

على شفير الانتحار

من التظاهرة الرمزية في باريس
لقد شهد الأسبوع الفائت مؤتمر باريس للمناخ، والذي يعد محطة تاريخية تم البحث فيها بين 147 رئيس دولة في كيفية إنقاذ الأرض والإبقاء على ارتفاعٍ للحرارة سقفه درجتين خلال ثلاثين عاماً.

ويعتبر هذا المؤتمر تكملة لمؤتمر "كيوتو"، حيث كان هناك التزام وللمرة الأولى لمجموعة كبيرة من الدول بتخفيض انبعاثات الغازات المسببة للإحتباس الحراري.

وقد شهدت العاصمة الفرنسية خلال المؤتمر "مظاهرة أحذية" للدفع باتجاه إجراءات جدية لمكافحة التغير المناخي، وكتعبير رمزي عن نزول المواطنين إلى الشارع لهذا الغرض، بعد أن منعتهم من التظاهر حالة الطوارئ المفروضة بعد هجمات باريس الإرهابية.

وقد أرسل البابا فرنسيس فردتي حذاء تعبيراً عن مشاركته في هذه التظاهرة، ولكن البارز جداً أكثر من مشاركته تعبيره عن الأزمة البيئية بالقول إن العالم "على شفير الانتحار"، مطالباً المجتمع الدولي بـ"التحرك الآن".

واعتبر البابا أن الأمور المنجزة منذ مؤتمر كيوتو "محدودة"، وأن "المشكلات تصبح أكثر خطورة كل عام". وكان البابا قد كرس للشأن البيئي وتحديداً "الاحتباس الحراري" اهتماماً لافتا خلال العام الحالي، ففي الربيع الفائت وجه رسالة بابوية ذكر فيها بأن التدهور المناخي يتسبب بتدهور في حياة الأكثر فقراً، فضلاً عن التلوث والكوارث الطبيعية والأمراض والحروب وموجات الهجرة.

يحدث كل هذا، والعالم منشغل بالصراع على النفوذ الجيوسياسي، وبمكافحة الإرهاب الذي يحاول تكثيف الموت على كوكب الماء.