كشف أوراق اللاعبين في عفرين
لا تزال الأسئلة حول أبعاد معركة عفرين تتفرّع وتتشابك أمام أنظار المتابعين، بل ربما صارت أكثر تعقيداً في عيون الأطراف المعنية بالوضع هناك. أسئلة في كل اتجاه ومن كل صوب. ما الذي دفع بتركيا إلى "إقفال الأذان" أمام كل صوتٍ داعٍ للتريث أو التوقّف عن الفعل، أو حتى التكفير بالأطراف التي سيواجهها جنودها هناك؟ كيف ستتعامل الولايات المتحدة مع هذه الخطوة التركية المغامرة؟ وما موقف إيران من دخول دولة جديدة بجنودها إلى التراب السوري؟ وما هي خيارات الحكومة السورية إزاء هذا التطوّر؟ وكيف ترى روسيا هذه المسألة؟ وكيف سينعكس ذلك على العلاقة بدمشق؟ هل هو تباين أم توزيع أدوار أم مواقف اضطرارية؟ ولماذا رفض الكرد تسليم المنطقة للجيش السوري قبل المغامرة بمواجهةٍ خطرة مع تركيا؟
تركيا.. حرب أهداف الحد الأدنى
أطلقت أنقرة حملتها على عفرين بمشهدية مسرحية لافتة جداً. احتفالية "مهترخانة" رافقت الجنود إلى الحدود بصفوف عسكرٍ على صهوات جيادهم متزيّنين بالأزياء العثمانية، على وقع أصوات عزف "نوبة" تدقّ في الأعياد والأفراح، كأنما المدفوعين إلى الحرب السورية مرسلون إلى واحدة من حروب السلطنة القومية العظمى. مشيةٌ عسكريةٌ مهيبة للـ"ميهميتشيك" المدعوم بحملة إعلامية هندسها رئيس الوزراء بن علي يلدريم من خلال 15 توصية جمع حولها رؤساء تحرير أهم المؤسسات الإعلامية في البلاد، وكان لافتاً توحّد الصحافة المحلية من مختلف الاتجاهات القومية واليمينية واليسارية خلف الجيش في حملته العسكرية هذه، متطلّعين لانتصار عسكري محدود تخرج به أنقرة من الأزمة السورية بعد سلسلة هزائم لمشروعها هناك.
ومن خلال محاولة التمدّد من عفرين إلى منبج، وإلى الحدود العراقية إن أمكن ذلك، تتطلّع تركيا إلى تثبيت وجود دائمٍ لها في الشمال السوري، يكون مكسباً استراتيجياً في ختام الأزمة السورية، ويفتح باباً على تدخّل سياسي مُستدام في سوريا، من خلال إمساك ورقة شمالٍ سوريٍ جديد قائم على القوى الحليفة لأنقرة، التي تسعى هذه الأخيرة إلى تمكينها من الأرض أولاً، ثم تثبيتها في مقابل الكرد والدولة السورية.
ويضمن هذا الوجود إن أفلح في التحقّق، القضاء لفترة بعيدة مقبلة على أيّ تهديد بحكمٍ ذاتي للكرد في مناطق تواجدهم في سوريا، مع رفض أنقرة لأية صلاحيات موسّعة أو شكل من أشكال الفدرالية أو أي شكل من التمييز الإيجابي للكرد في سوريا، كونه يستتبطن تحفيراً لمسار كرد تركيا نحو المطالبة بمثيل ذلك على أراضي هذه الأخيرة.
وفي سياق الطموحات التركية من وراء هذا التوغّل في سوريا عسكرياً، ترى أنقرة أنها بدخولها إلى عفرين تفرض على روسيا والولايات المتحدة تثمين دورها أكثر في ما يخصّ علاقاتها المشتركة مع كل منهما. فمن الجانب الروسي، تتوقّع أنقرة مزيداً من المغريات التي يسخى يوتين في تقديمها لها، درءاً لأية أخطار ممكنة بدعمٍ تركي على مسار الحل السياسي في سوريا، كما على المصالح الروسية في القوقاز مثلاً. إلى جانب طمعٍ روسي طموح بتسريع ابتعاد أردوغان عن واشنطن وتعميق الشرخ بينه وبينها، كخطوةٍ مفصلية في سياق مواجهة روسيا لتوسّع حلف شمال الأطلسي في مناطق مصالحها المباشرة.
وفي وجه الأميركيين، يعتبر التدخل التركي جريئاً في المنافسة على الموقع المتحكّم بمعارضي الشمال. فانحسار مساحة سيطرة – ونوعية - القوى المعارضة لدمشق جعل من هذه القوى محط صراع بين حلفاء الأمس في أنقرة وواشنطن. ويظهر في الموقف التركي تخطياً مقصوداً للمصالح الأميركية التي باتت محصورة جغرافياً في مناطق محدّدة، ودونما أفقٍ واضح لتأثيرها. وقد وصلت تطوّرات الميدان إلى نقطة تتيح المواجهة المباشرة بين ألفي جندي أميركي متواجدين في المنطقة التي يزحف إليها الجيش التركي، الذي بدوره يمهّد الميدان للدور الاقتصادي التركي المقبل إلى الشمال السوري، بعد إعادة النازحين السوريين إليه، وفرض منطقةٍ آمنة يصرّ أردوغان على توليدها، وينتظر من موسكو أن تضمن حياتها. ولكن هذه التطلّعات الطموحة تصطدم بإرادة الإدارة السورية، فما هي حسابات هذه الأخيرة؟
دمشق.. تمسك بالسيادة وتفاؤل بالمآلات
في دمشق لم يتغيّر الموقف المبدئي الذي اتخذ في بداية الأزمة السورية. رفض لأيّ طرح يفضي إلى تقسيم أو تواجد لقوّة أجنبية على الأرض من دون موافقة الحكومة السورية. أكثر من ذلك فإن دمشق ترفض تثبيت حقوق مكتسبة لأحد بتمييزٍ عرقي مبني على أمر واقع ميداني، خصوصاً إذا وضع ذلك شرطاً لإعادة الدولة إلى المناطق الكردية، فما بالك الآن وقد رفض الكرد تسليم عفرين للجيش السوري قبيل الحرب التركية عليها؟
ويترجم الجيش السوري اليوم هذه الإرادة السياسية لقيادته من خلال مواجهته للتوغّل التركي والذي هدّد به نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بالتصدّي المباشر والرادع لأيّ تورّط عسكري تركي في عفرين، إنما ضمن حسابات الميدان والإمكانات وتوقّع المآلات على الأرض وفي السياسة، على اعتبار أن العمل العسكري محكوم بالمردود السياسي المترتّب عليه، وعلى قاعدة تجنّب الأعمال التي تعود بالضرر السياسي، أو التي تأتي كلفتها أعلى من مردودها على السيادة الوطنية، مع التمسّك بالحق القانوني والسيادي برفض التدخّل التركي. وبهذا الإصرار، تكون دمشق قد رفضت سياسياً وعسكرياً ووفق قدرتها الدخول التركي إلى أرضها، وركنت بحكم الأمر الواقع إلى الدور الروسي في رد الأطماع التركية بعيدة المدى، فيما لو سيطرت تركيا على مساحةٍ معتبرة من الجغرافيا، وهو ما يحفظ لدمشق كل الحق بمطالباتها المقبلة بخروج آخر جندي تركي من أرضها، من دون التورّط في مواجهة واسعة وشاملة مع تركيا في هذه اللحظة التي تقترب معها مكاسب تصفية الأطراف التي أرّقت أمن سوريا خلال السنوات السابقة، ومن دون المخاطرة بخسارة كل المكتسبات العسكرية والسياسية التي تحقّقت لمصلحة دمشق خلال السنوات الفائتة، وخصوصاً استعادتها لمشروعيّتها على المستوى الدولي بشكلٍ مُتنامٍ، مع حفظ مسار الحل السياسي صعوداً باتجاه النتيجة المرجوة منه.
وسياسياً، تستمر دمشق في التنبيه المتكرّر من الأطماع التركية البعيدة التطلّع في سوريا، والتأكيد على أن كل خطوة تركية مهما كانت صغيرة إنما هي تندرج ضمن هذا السياق. وبهذا تتكامل جهود دمشق مع التخطيط الروسي لكسب أنقرة وإبعادها عن واشنطن، وتسريع تناغمها ضمن شراكة روسية- إيرانية- تركية تشكّل منصّة للحل السياسي الموعود في سوريا. ووفق منطق دمشق، فإن الوقت يلعب لمصلحتها، كون التفاعلات الطبيعية للميدان وللسياسة في المنطقة، تفضي تدريجياً إلى صِدام أميركي-تركي في المساحة الضيّقة للنفوذ الأجنبي في الشمال السوري، والذي أشرنا إليه أعلاه.
وفي هذه النقطة الأخيرة، خبرة سوريّة مكتسبة خلال الحرب، ومستمدة من تكتيكات السياسة الخارجية السورية بعد 1973 التي غالباً ما تسعى إلى توفير الجهد العسكري، والاعتماد على صراع الأعداء بدلاً من التدخّل المباشر عند كل خطر أو مصلحة.
وفي دينامية الاشتباك المفتوح على المستقبل بين واشنطن والكرد من جهة، وأنقرة من جهةٍ ثانية، تترك دمشق على طاولة موسكو ورقة فيها موقف واحد: على الطرف الرابح من هذه المواجهة كائناً مَن يكن، إعادة السلطة والأرض إلى الحكومة السورية صاحبة الحق الأوحد وفق مندرجات القانون الدولي من جهة، واعتماداً على مآل الحل السياسي الذي تأمل دمشق أن يكون قد اكتمل في لحظة نهاية هذا التناحُر الأجنبي على أرضها.
وقد بدأت معالم التراجع الكردي عن رفض تسليم دمشق مناطق السيطرة الكردية، أولاً من خلال المبادرة التي أطلقها السياسي الكردي ريزان حدو تحت عنوان "عفرين أولاً" للتنسيق بين الأحزاب الكردية والحكومة السورية، وثانياً من خلال ما صرّح به مصدر كردي للميادين وفحواه ترحيب كردي بدخول الجيش السوري إلى كل منطقة عفرين ضمن الاتفاق مع الحكومة السورية، مقابل أن يكون الكرد جزءاً من العملية السياسية، واستعدادهم إعادة سلاح وحدات الحماية إلى الدولة السورية والذي هو لها بالأصل، وقوله إن الكرد حملوا السلاح "دفاعاً عن النفس ولم يعلنوا العداء للنظام السوري"، وأنهم "لا يسعون إلى إنشاء دويلة في سوريا بل هم جزء من النسيج الوطني السوري". أي تبديل "المطالب الانفصالية" بـ"الحقوق المواطنية" للكرد السوريين ضمن سوريا الموحّدة.
وإلى جانب كل حساباتها وإجراءاتها الميدانية والسياسية، تراهن الحكومة السورية على ضمانة روسية بعدم بقاء الجيش التركي لفترة طويلة في الأراضي السورية، من خلال العسكريين الروس على الأرض، كما من خلال التفاهمات الروسية- التركية في المنطقة. ولعلّ في ذلك حفظ لمسرب قد يُعيد تطبيع العلاقات السورية- التركية في مرحلةٍ مقبلة.
مرة أخرى.. رهان كردي خاطئ
وما من شكٍ بأن أصعب المواقف بين الأطراف جميعاً هو الموقف الكردي. فالكرد راهنوا خلال السنوات المنصرمة على علاقتهم بواشنطن، واستثمروا فيها، وأفلتوا في المقابل اليد الروسية التي مدّت إليهم في حميميم وغيرها، وبعدوا تدريجاً عن دمشق، قبل أن يصدموا بانهيار جهود كرد العراق نحو الانفصال. والآن يقف الكرد في نقطة الحيرة بين خياراتٍ جميعها سيّىء.
فبين إرادة أنقرة إنهاء وجودهم المتمايز في شمال سوريا، وتخلّي موسكو عنهم بعد رفضهم لمبادرتها بتسليم دمشق مناطق سيطرتهم في عفرين، وتراخي الدعم الأميركي العلني لهم أمام الهجمة التركية، لا يبقى لهم سوى يد القيادة السورية المبسوطة بوعود الحقوق المواطنية الكاملة، والرافضة لمنطق الانفصال.
ولعلّ الأميركيين لا يمتلكون ما يعطونه للكرد، أكثر من التصريحات المتردّدة والمُصطدِمَة في كل مرة بمصالحهم مع الدول الأخرى في المنطقة. إلى حدٍ لم يعد الكرد يأملون كثيراً من الخلاف التركي- السوري، واللعب على وتر حاجة الجميع إليهم في مواجهة الإرهاب، خصوصاً بعد تقلّص مساحة سيطرة المنظمات الإرهابية في مجمل الأرض السورية، وبالأخصّ التقدّم المُطّرد للجيش السوري في محافظة إدلب، وهي الخزان الأكبر المُتبقي للقوى الإرهابية في سوريا.
وينظر الكرد في هذه اللحظة إلى الجهات الأربع، ليجدوا رفضاً لأيّ مشروع إنفصالي أو حتى فدرالي لهم من قِبَل طهران وبغداد وأنقرة ودمشق. وربما يكون الخيار الأفضل لهم اليوم هو العودة إلى حضن دمشق والتمسّك بالتراب الوطني السوري، والتمسّك بالفرصة التي أتاحها الرئيس الأسد لهم عندما صرّح بإمكانية تحسين أوضاعهم وحفظ تمايزهم الثقافي. وإلا فإنهم يعلمون أن لكل رئيس أميركي الحليف- الضحية خاصته.
وربما يكون المثل الذي أعطاه مدير مركز المعلومات التحليلية العلمية بمعهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية نيقولاي بلوتنيكوف، في صحيفة "كومرسنت" الروسية معبّراً، فقد قال في معرض مقاربته للموقف الكردي، إن" الكرد باتوا رهائن في المواجهات بين تركيا والولايات المتحدة...فأي شخص يحاول الجلوس على كرسيين، غالباً ما يخسر".
روسيا.. براغماتية المُنتصر
أما من جانب موسكو، فإن الرؤية أكثر شمولاً للمُعطيات الدولية والاقليمية من جهة، ولتنوّع المصالح المُتضمّنة في هذه المُعطيات من جهة أخرى. فقضية عفرين ليست مرتبطةً بالنسبة إلى موسكو بالأزمة السورية فحسب، بل إنها تشكّل جزءاً من ملفات العلاقة مع تركيا، وهي جزء من ملف أمن القوقاز، وجزء من مسار مواجهة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، وجزء من جهود تقريب تركيا منها، وجزء من بناء علاقاتها المتطوّرة تدريجاً مع إيران والعراق، إلى جانب علاقاتها الاستراتيجية في دمشق. وليس هذا فحسب، بل إن تعداد تشعّبات قضية الكرد السوريين بالنسبة إلى موسكو لا ينتهي بجملةٍ حاسمة.
من هذا المنطلق، تستمر موسكو بدعم جهود الجيش السوري لاستكمال استعادة كل الأرض السورية من دون استثناء. وفي مسارٍ موازٍ تستمر بجهودٍ لا تقلّ إصراراً بتطوير العلاقات مع أنقرة، وبمحاولة تصفية الأطماع الاستعمارية التركية للشمال السوري، ولكن بالوسيلة السياسية، كونها أثبتت تفوّقها على وسائل المواجهة مع الأتراك خلال الأزمة السورية، وبالنسبة إلى الطرفين مجتمعين. وكلما تمكّنت موسكو من إبعاد أنقرة عن واشنطن، فهي بالدرجة نفسها أو أسرع ستتمكّن من إعادة وصل العلاقات التركية- السورية، في مسار إعادة بناء العلاقات الخارجية لسوريا بدءاً من الجو المعادي خلال السنوات الأخيرة.
وفي مجال علاقتها بالكرد، لم تعد موسكو تثق بهؤلاء بعد تخلّيهم عن الفُرَص التي منحتها لهم، باستثناء فتح الباب أمامهم للاشتراك في الجولة الأخيرة من مفاوضات سوتشي خلال الأيام الأخيرة من كانون الثاني- يناير 2018. وعوضاً عن التوغّل في مراهنة خاسرة على الكرد في عفرين، تعتمد موسكو على التنسيق عن قُرب مع أنقرة، حيث كان اتصال الرئيسين الروسي والتركي خلال الأسبوع المنصرم محطةً لدعم الشفافية في العلاقة بين الطرفين بخصوص عفرين.
وإلى جانب كل ذلك، يؤكّد الصحافي البريطاني روبرت فيسك، المتواجد في عفرين، إن العسكريين الروس لا يزالون في المدينة، وبالتالي فإن التنسيق العسكري بين الجيشين الروسي والتركي أمر حتمي لمنع الصِدام غير المقصود. وإن التنسيق السياسي بخصوص أفق الوجود التركي هناك، والحال هذه، يصبح حتمياً، ويتفرّع من ذلك وضوح مُفترَض في الرؤية الروسية لمستقبل هذا الوجود وعلاقته بمصلحة دمشق. ولكن أين الأميركيين من كل ذلك؟
استمرار الخسارات الأميركية

لقد طُبِعت الفترة الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بطابع التردّد في ما خصّ الملف السوري. فهو لم يتمكّن من فرض خيارات بلاده من جهة، ومن جهة أخرى لم يستطع التوصّل إلى تفاهم حاسِم مع روسيا لإنهاء الحرب السورية. ولكن الموقف الأميركي اليوم لا يبدو أفضل على الإطلاق. فخطاب الرئيس ترامب في هذه المسألة زاد من توتّر العلاقات مع الأطراف الأخرى المعنية، ودلّ على حال من الارتباك الشديد في رؤية ومشروع الإدارة الأميركية لمصالحها في سوريا. فلا ترامب قادر على الانخراط في التسوية السياسية، ولا هو قادرٌ على إجبار الآخرين بخياراته لسوريا.
ولا يتبقّى من خطوات تنفيذية لخطاباته العالية السقف سوى حراك تخريبي لمسار التسوية في جنيف، وأكثر حدّة في سوتشي. وقد دلّ ذلك انكفاء دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة عن المشاركة في جولة سوتشي الأخيرة حتى بصفة مراقبين، بالإضافة إلى رفض وفد المعارضة السورية المشاركة، وانسحاب شخصيات من المؤتمر على خلفيّة وجود العلَم السوري الرسمي.
فالأمر المحسوم بالنسبة إلى الأميركيين هو أنهم لا يريدون حلاً ناجِعاً برعاية روسية- تركية- إيرانية، ولكن من دون تقديم بديلٍ عملي يتوافق مع توازنات الميدان، ونتائج تفاعلاته خلال السنوات المنصرمة، وإرادة معظم الشعب السوري الموجود على الأرض السورية اليوم، وحاجة السوريين خارج البلاد للعودة إلى بلادهم والمشاركة في بناء مستقبلها.
لقد أثبت ترامب خلال السنة المنصرمة عدم قدرته على إعادة بناء خيارات واقعية لسياسة بلاده الخارجية في سوريا. وجلّ ما يستطيعه اليوم هو التخريب على الحلول الروسية، وتأخير الحل السياسي لسوريا.
ولعلّ في ذلك انعكاس للأزمة الداخلية التي تعيشها الإدارة الأميركية، والانقسام غير المسبوق نوعاً وكمّاً فيها. فضلاً عن سوء حال الوجع العالمي لأميركا، وهو ما تثبته دراسات تقول بتناقُص التأييد العالمي وخصوصاً الأوروبي لقيادة الولايات المتحدة للعالم إلى 30%. وبالإضافة إلى النزوع الشعبي والرسمي الأوروبي نحو التململ من سياسات ترامب، فإن هذا الأخير يعاني من أسوأ دعم شعبي لرئيس أميركي خلال عامه الأول من الحُكم، حيث لا تتجاوز شعبيته اليوم 38%، مع مخاطر حقيقية على إمكانية استكمال ولايته.
ويعود ذلك إلى اعتبار الكثير من الدول والقادة حول العالم أن مرحلة ترامب لا تمثل تقاليد السياسة الأميركية خارجياً، وخصوصاً تجاه الحلفاء.
وربما يشكّل النموذج التعاوني بين روسيا وتركيا وإيران في سوريا إغراءً لقادة آخرين بصورةٍ مُتزايدة، للتعبير أكثر عن سياسة خارجية وطنية مُتمايزة عن الأميركيين خصوصاً بعد النجاح الذي حقّقته كل من روسيا والصين في مواجهة الهيمنة الأميركية، تحديداً في الأزمة السورية.
مهما يكن من أمر، فإن معركة عفرين تبقى محطة مهمة في مسار الحرب السورية، تثير أعصاب وانتباه كل اللاعبين. ومع أن دمشق وأنقرة تقفان اليوم على طرفيّ نقيض بين طامِعٍ إلى دور ومدافِعٍ عن سيادة، فإن اكتمال الصورة، وبعض الوقت، قد يجعلان الانسحاب التركي بداية إعادة تطبيع علاقاتهما المشتركة.