طهران وواشنطن صراع الغلبَة

تفتح التوتّرات الأخيرة في منطقة الخليج بين أميركا وحلفائها من جهةٍ وإيران من جهةٍ ثانية، باب التساؤلات ليس فقط على الأفق المستقبلي لهذه التطوّرات، بل أيضاً على مسار الأحداث الذي أوصل المنطقة إلى هذا المستوى من التوتّر.

ومع أن العلاقات المشتركة بين الولايات المتحدة وإيران طُبِعَت دائماً بالتوتّر منذ نجاح الثورة الإسلامية في التأسيس لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979 بقيادة الإمام الخميني، فإن التطوّرات الحالية تبدو مفصلية في تاريخ هذه العلاقات، نظراً لطبيعة الإدارة الأميركية الحالية وتوجّهاتها الداعِمة للصهيونية بصورةٍ مُطلَقة، وأيضاً بسبب تطوّر القدرات الإيرانية التي أصبحت قادِرة على مُمارسة سياسة خارجية فاعِلة في الإقليم، تستند إلى نظامٍ سياسيٍ متين، وقدرات عسكرية كبيرة جداً، وحلفاء في محور المقاومة ينشطون تحت عناوين مقاومة تُلاقي وجدان شعوب المنطقة كافة، وبالتالي فهذه الحركات المقاوِمة باتت قادرةً على التكلّم والتصرّف استناداً إلى عُمق شعبي ممتد وواسع.
وقد تدهورت العلاقات الأميركية الإيرانية بعد وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية عام 2016، الذي بدأ مباشرةً بتدمير كل مسارات الحوار التي بناها سلفه باراك أوباما مع طهران، واستبدالها برُزَمٍ جديدة من العقوبات. وكان أوباما والدول الخمس قد توصّلوا إلى الاتفاق النووي مع إيران بعد شهورٍ طويلةٍ من المفاوضات الشاقّة بين هذه الأطراف وإيران، وكان مسار تطبيق هذا الاتفاق ممتازاً حيث أكّدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن طهران اتّخذت خطوات ضرورية للحد من أنشطتها النووية بمقتضى الاتفاق المُبرَم في يوليو- تموز عام 2015، إلى أن وصل ترامب وبدأ بتحطيم التفاهُمات التي رأى سلفه أنها مهمّة جداً لأمن الولايات المتحدة والشرق الأوسط، وتالياً للأمن العالمي برمّته. وقد تبادل الطرفان الأميركي والإيراني يومها بنتيجة ذلك رسائل إيجابية من خلال الإفراج المُتبادَل عن سُجناء عند كل منهما.
فكيف تطوّرت العلاقات الأميركية الإيرانية من الخمسينات، وبعد نجاح الثورة الإسلامية، وصولاً إلى الظروف الحالية؟

تطوّر الأحداث منذ ثورة مصدّق
في عام 1953 تدخّلت الولايات المتحدة الأميركية من خلال مخابراتها المركزية في الإطاحة برئيس الوزراء السابق محمّد مصدّق الذي قام بحركةٍ ثوريةٍ تسلَّم من خلالها الحُكم، لتُعيد حليفها الشاه محمّد رضا بهلوي إلى السلطة، الأمر الذي اعتبره الإيرانيون تدخّلاً في الشؤون الداخلية لبلادهم، وساعد من جانبٍ آخر على تحفيز الشعور المُناهِض للسياسة الأميركية، والنفوذ الواسع لواشنطن في إيران من خلال حُكم الشاه، الذي حَكَمَ طهران ومنطقة الخليج برمّتها من خلال وَهْج القوّة الأميركية الحامية له. وهذا ساهم في التفاف الجماهير الإيرانية حول القيادات المُعارِضة، ومنها في وقتٍ لاحق الإمام الخميني الذي كان ينشط للإطاحة بالشاه، وتأسيس نظامٍ إسلامي مُناصِر للقضايا الإسلامية الكبرى كالقضية الفلسطينية.
بعد ذلك، وقَّعت الدولتان عام 1957 في عهد بهلوي، اتفاقاً للتعاون في الشؤون النووية، وبدأ هذا التعاون يُترجَم من خلال تزويد الولايات المتحدة إيران بمفاعلٍ نووي يعمل باليورانيوم المُخصَّب في مستوى يصلح للاستخدام العسكري والتسليحي. وتأسيساً على هذه القدرة، وقَّعت إيران عام 1968 معاهدة حَظْر انتشار الأسلحة النووية التي سمحت لها بامتلاك برنامجٍ نووي سلمي مقابل الالتزام بعدم السعي للحصول على أسلحةٍ نووية.
وتغيَّرت الأحداث بصورةٍ جذريةٍ بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، والتي أرغمت الشاه المدعوم من أميركا على الفرار من البلاد، ومن ثم قيام مجموعة من الثوريين باقتحام مقرّ السفارة الأميركية الذي كان يُعتَبر مركزاً مُتقدّماً للقيادة المُخابراتية الأميركية في المنطفة، مُطالبين بتسليم الشاه، الأمر الذي لم يتم، ما انعكس مزيداً من التدهور في علاقة البلدين. خصوصاً مع اتخاذ الثوار رهائن أميركيين داخل السفارة، ومحاولة الرئيس جيمي كارتر تحريرهم من خلال عملية عسكرية فاشلة قُتِلَ فيها جنودٌ أميركيون. وخلال العام 1980، قطعت الولايات المتحدة علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، وصادرت الأموال الإيرانية في بنوكها، وأوقفت النشاطات التجارية بين البلدين. ولم يفلح إفراج السلطات الإيرانية عن الرهائن الأميركيين في تحسين العلاقات المشتركة. فقد ذهبت الولايات المتحدة بعيداً لتُدرِج إيران على قائمة الدول الراعية للإرهاب في عام 1984.
واستمرت المحطّات السيّئة في العلاقات المشتركة، حيث أسقطت سفينة حربية أميركية طائرة ركاب إيرانية عام 1988 وقتلت حوالى 300 مسافر كانوا على متنها، ولم تعترف الولايات المتحدة بتعمّد قصف الطائرة، حيث سجّل أنها أُسقِطَت عن طريق الخطأ.
ومع أن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت اعترفت عام 2000 بالدور الأميركي في إسقاط مصدّق والمساوئ التي نجمت عن ذلك، خصوصاً لناحية تعبئة الإيرانيين ضد بلادها، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلا إلى المزيد من اقتناع الإيرانيين بصواب خيارهم ورؤيتهم للنوايا الأميركية حيال بلدهم، وهو ما ترجمه الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش عام 2002 عندما أعلن عن "محور الشر" وضمّ إليه إيران والعراق وكوريا الشمالية. وعلى خلفيّة هذا الادّعاء، بدأ أسطوانة امتلاك إيران لبرنامجٍ سرّي للأسلحة النووية تتردَّد على ألسنة الصحافيين الأميركيين، والمسؤولين الرسميين في واشنطن، بالتزامُن مع التعبئة ضد العراق على قاعدة اتّهامه أيضاً بامتلاك أسلحة دمارٍ شامل.
استمرت إيران طوال الفترة الممتدّة من نجاح الثورة عام 1979 وحتى حرب العراق بدعم حركات المقاومة ضد إسرائيل، بالمال والسلاح وبناء القدرات، وحقَّقت خلالها حركات المقاومة في لبنان وفلسطين انتصارات عديدة، كان أبرزها وأكثرها تأثيراً تمكُّن المقاومة اللبنانية من تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، حيث كان لطهران دورٌ أساسي في هذا الوصول إلى هذا التحرير عام 2000. وهو ما أحدث صدمةً في الأوساط الأميركية والإسرائيلية التي صبَّت تركيزها على طهران أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وبدأت بحياكة سيناريوهات لقَطْعِ العلاقة بين إيسران وبقية مكوّنات محور المقاومة، وخصوصاً سوريا.
في عام 2005 تدهورت الأوضاع في لبنان عقب اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وسعى الغرب بقيادة الولايات المتحدة إلى اتّهام سوريا ومن ثم حزب الله بذلك، الأمر الذي وضع أمام إيران وحلفائها أولويات مهمة بضرورة ضمان استمرار العمل المقاوِم ومَنْعِ الفتنة الطائفية في لبنان والمنطقة. ولم تكد الجهود المبذولة من أجل ذلك تُثمر، حتى شنَّت إسرائيل حرباً عنيفة ضد لبنان بدعمٍ مباشرٍ ومُعلَن من الولايات المتحدة الأميركية عام 2006، ووضع الإسرائيليون هدفاً أساسياً لهذه الحرب وهو القضاء على قدرات المقاومة اللبنانية المدعومة من إيران، ووقف مسار الأسلحة عبر سوريا، وتغيير وجه النظام السياسي اللبناني عبر دعم القوى المُناهِضة لإيران وسوريا وتمكينها من الحُكم. لكن نتائج الحرب أثبتت انتصار المقاومة، على الرغم من الجسر الجوي الأميركي المفتوح لتسليح إسرائيل خلال 33 يوماً وهو عُمر الحرب. وكانت هذه النتيجة كفيلة بتعزيز حضور إيران وحلفائها في المنطفة، وبتقوية حركات المقاومة التي كسبت وَهْجاً عربياً من خلال استعادة إمكانية الانتصار على إسرائيل.
وفي عام 2006 أيضاً، قالت الولايات المتحدة إنها مُستعدّة للانضمام إلى المحادثات النووية مُتعدِّدة الأطراف مع ايران إذا أوقفت تخصيب اليورانيوم على نحو يمكن التحقّق من صحته، وقد أثمر هذا الموقف المبشر بمحادثات سريعة جداً بين وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس ونظيرها الإيراني منوشهر متكي على هامش أحد المؤتمرات في القاهرة.
وفي العام نفسه، قدّرت المخابرات الأميركية أن إيران توقّفت عن العمل على تطوير أسلحة نووية في عام 2003. واستمرت الإيجابية في التطوّر عندما شارك أحد مسؤولي الخارجية الأميركية بيل بيرنز بصورةٍ مباشرةٍ في المفاوضات النووية مع إيران في جنيف.
بعد وصول باراك أوباما إلى السلطة عام 2008، أعلن أنه يمدّ يده للقادة الإيرانيين إذا رحبّوا بها، وإذا تمكّنوا من إقناع الغرب بأنهم لا يريدون ولا يحاولون صناعة قنبلة نووية. لكن في المقابل، كانت كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة تُعلن أن إيران تبني موقعاً سرّياً لتخصيب اليورانيوم في فوردو قرب مدينة قمْ المُقدَّسة. في الوقت نفسه، كشفت إيران عن الموقع المذكور للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولكي يتبيّن وجود الأنشطة التي اتهمت الدول الثلاث طهران بعملها. هذا التردّد في الإجابية، واستمرار الدول الغربية بالضغط على إيران عبر الاتهامات المستمرة، أدّى إلى تعثّر المفاوضات حتى عام 2012.
وفي العام هذا، أتاح قانون أميركي سرَى مفعوله لأوباما فرض عقوبات على بنوك أجنبية من بينها بنوك مركزية لدول حليفة للولايات المتحدة، إذا لم تنجح في خفض وارداتها من النفط الإيراني بشكلٍ ملحوظ. وكانت النتيجة انخفاضاً كبيراً في مبيعات النفط الإيرانية وتراجع حاد للاقتصاد الإيراني.
ولكن على الرغم من ذلك، كان الحديث يكبر عن مفاوضات سرية تتعزّز بين الطرفين. وفي عام 2013 وصل الرئيس حسن روحاني إلى موقع الرئاسة في إيران، وشمل برنامجه الانتحابي دعوةً لتطوير علاقات بلاده مع العالم واقتصادها، وقد أطلق ذلك دينامية جديدة في القيادة الإيرانية، برهنت بدورها عن هوامش مريحة من الديمقراطية السياسية في إيران، وقدرات كبيرة على إدارة الحُكم بطريقة مُجدية.
أثمرت هذه الدينامية، ومُلاقاتها لديناميةٍ إيجابيةٍ مُماثلة في مكتب أوباما في واشنطن، عن اتصال أول بين الرئيسين في 28 أيلول-سبتمبر عام 2013، وهو أعلى مستوى من التواصل الرسمي بين البلدين منذ نجاح الثورة الإيرانية.

بعد ذلك توصّلت المُحادثات السرّية بين الولايات المتحدة والدول الخمس وإيران للتأسيس لاتفاق مؤقت وافقت إيران بمقتضاه على الحد من أنشطتها النووية مقابل تخفيف محدود للعقوبات.
وقد أُبرِمَ هذا الاتفاق في 14تموز-يوليو عام 2015، ووافقت إيران بموجبه على أخذ سلسلة من الخطوات من بينها تقليص عدد أجهزة الطرد المركزي، وتعطيل جانب رئيسي من جوانب مفاعل آراك النووي مقابل تخفيف العقوبات التي تفرضها عليها الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي بدرجةٍ ملموسة.
توتّر بسيط أحدثه احتجاز إيران عشرة بحارة أميركيين عام 2016 كانوا على متن زورقين دخلا المياه الإقليمية، ما لبثت إيران أن أطلقت سراحهم. وفي الشهر نفسه الذي جرت فيه هذه الحادثة، أعلن البلدان عن تنفيذ اتفاق لتبادل السجناء يتم بموجبه الإفراج عن أربعة أميركيين مُحتَجزين في إيران، مقابل العفو عن سبعة على الأقل من الإيرانيين أغلبهم يحملون الجنسيتين الإيرانية والأميركية.
وفي السياق المرتبط بهذه العلاقة، أكّدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران اتخذت خطوات للحد من أنشطتها النووية بمُقتضى اتفاق يوليو-تموز. وبدورها رفعت الولايات المتحدة العقوبات التي فرضتها على إيران بسبب البرنامج النووي.
ومنذ وصول ترامب إلى الرئاسة مع برنامج انتخابي يتضمَّن الخروج من الاتفاق النووي والتوتّرات تتصاعد، إن لناحية العلاقات المشتركة مع إيران، أو لناحية الأجواء الإقلمية التي زاد منسوب التوتّر فيها أضعاف ما كان.
وبالفعل، فقد نفّذ ترامب كلامه وانسحب من الاتفاق عام 2018، وعاوَد فرض عقوباتٍ ثقيلة ضد طهران، مُستهدِفاً وقف صادرات النفط الإيرانية بصورةٍ أساسية، وصنَّف الحرس الثوري الإيراني تنظيماً إرهابياً.
وزاد من حدَّة التوتّر قيام ترامب باستخدام لغة سيّئة في حديثه عن إيران، وهي لغة مُماثلة اعتاد استخدامها مع دولٍ أخرى مناوِئة لسياساته، لكن في الحال الإيراني كان لهذه اللغة انعكاسات سلبية جداً، نظراً لخصوصية الشخصية الإيرانية، ولطبيعة النظام السياسي المستقلّة تماماً، الأمر الذي زاد من صعوبة العلاقات المشتركة. خصوصاً وأن الإدارة الأميركية بدأت تُهدِّد الدول المُتعامِلة بالنفط مع إيران، بفرض عقوبات عليها أيضاً.
لكن الشهرين الأخيرين حملا معهما تطوّرات دراماتيكة، حيث أعلنت السعودية عن تعرّض ناقلتين سعوديتين لهجومٍ تخريبي، وهما في طريقهما لعبور الخليج العربي قرب المياه الإقليمية للإمارات. ومُسارعة الجيش الأميركي إلى المشاركة بالتحقيقات. وخرج على إثر ذلك ترامب ليُهدّد إيران بعواقب "أليمة" إذا أقدمت على ارتكاب "خطأ كبير". مُعطياً أوامره لقاذفات من طراز بي-52 ومقاتلات أميركية أخرى بتنفيذ "طلعات ردع" فوق الخليج. لكن الأجواء هدأت نسبياً مع إعلان قائد الثورة السيّد علي خامنئي استبعاده نشوب حرب مع أميركا، وتأكيد ترامب أنه لا يريد هذه الحرب.
لكن الهدوء لم يستمر طويلاً، حيث أسقطت إيران طائرة تجسّس أميركية اخترقت مجالها الجوي، الأمر الذي أحرَج ترامب، ودفعه إلى إعلان توقّعه بأن يكون أحد الأشخاص المُتهوّرين قام بهذا العمل وليس قراراً جدياً من إيران. هذه الأخيرة ردّت بأن اختراق طائرة التجسّس لأجوائها يمكن أن يكون ناجِماً أيضاً عن قرارٍ فردي خاطئ من ضابطٍ أميركي.
إذن هي مواجهة سياسية تريد منها الولايات المتحدة تركيع طهران، بينما لا تقبل إيران أن تكون أقل تكافؤاً خلالها. كباش عالي الحدّة، لكنه بين خصمين يعرفان ماذا يريدان. ترامب يريد إرغام إيران على الاستسلام. والقيادة الإيرانية تريد الصمود الذي يُنهي أحلام ترامب السياسية ويُدمِّر حملته لولاية جديدة.