27-08-2016

نص الحلقة

 

غسان الشامي: مساء الخير.

القدّيس الأكثر شعبية والقاسم المشترك بين المسيحيين والمسلمين مار جرجس الخضر، المشرقي العالمي، شفيع روسيا وبريطانيا، والذي اختار أهل غروزيا اسمه لأرضهم وسمّوها جورجيا، الأيقونة الشهيرة للشابّ البهيّ الحامل رمحه لتخليص الناس من تنّين الشرور، وحامي جمال البشرية في صورة الأميرة خلفه، الحارث والفلّاح والمزارع معنى اسمه الآتي من الآرامية، اللابس الظفر في الكنيسة، صديق وشفيع الفلّاحين وملاذهم، الخضر الأخضر في المحمّدية، وهذا لون النبات والزرع والشجر الطالع من اللد، وشفيع عكّا وبيت لحم وبيت جالة وبيت ساحور، وعيده قومي في كل 23 نيسان. مَن يلتقي عنده أهل هذه البلاد هو محور حلقة "أجراس المشرق" مع الأستاذ ناجي درويش والدكتور عصام ديبان من أحد أهم أديرة المشرق المنذورة على اسمه دير مار جرجس الحُمَيْراء في وادي النصارى غرب حمص في سورية. تقرير عن مار جرجس ثم إلى الحوار:

 

التقرير

 

مار جاورجيوس، جرجس، جريس، جورج، جرجي، يوري، جرجيس، كيوركيس، خورخي؛ القديس الأكثر شهرة في المشرق والاسم الموغل في الذاكرة الجمعية والشفيع لدى المسيحيين والمسلمين باسم الخضر.

معنى اسمه الحارث أو الزارع أو الفلّاح بالآرامية والسريانية. ويقول التقليد الكنسي إنه وُلد في مدينة اللد في القرن الثالث الميلادي أو في كبدوكيا شمال سورية من أبوين مسيحيين، وأمّه من اللد.

صار ضابطاً في جيش الإمبراطور ديوبليسيانوس، ورفض تعذيب المسيحيين فحاول استمالته ثم سامه كل أنواع العذاب فلم يُفلح في ثنيه عن إيمانه فقطع رأسه في الثالث والعشرين من نيسان عام 303 للميلاد.

وفي التقويم الفلكي الزراعي يطابق عيد الربيع قديماً. ودُفن في اللد.

وهناك مخطوط سينائي يقول إنه استشهد في حوران حيث أقدم قبّة في كنيسة أزرع على اسمه.

اشتُهر بقصة قتل التنّين، وبات محور أيقوناته إذ يروى أن تنّينا كان يخرج في بيروت ويقدّمون إليه بنتا كل عام. ووقعت القرعة مرة على الحاكم، فأخرج ابنته التي توسّلت مار جرجس فظهر وقتل التنّين في رمزية انتصار الخير على الشر.

وجاورجيوس هو الخضر الأخضر لدى المسلمين في المشرق. وفي القرآن الكريم لم يرد اسمه صراحةً لكن تلميحاً في الآية 65 من سورة الكهف. ويروي محمّد بن عمارة عن الإمام جعفر بن محمّد أن الخضر نبيّ مرسل بعثه الله إلى قوم فدعاهم لتوحيده. والمسلمون يزورون مزاراته المسيحية ومنها مار جرجس الحميراء.

 

غسان الشامي: أهلاً بكم. أهلا بكما في "أجراس المشرق".

أستاذ ناجي، من عندك أولاً. في هذه المنطقة التي يقيم فيها مار جرجس منذ 1,600 سنة، أي هذا الدير هو من غروب القرن الرابع. بعد هذه التبدّلات الثقافية الطويلة في المئة عام الأخيرة، كيف ينظر الناس أو لا يزال ينظر الناس إلى مار جرجس؟
ما هي حاله في هذه المنطقة؟

ناجي درويش: بدايةً شكراً لـ"الميادين" وشكراً لـ"أجراس المشرق" ولك تحديداً أستاذ غسان على الاستضافة.

غسان الشامي: واجبنا.

ناجي درويش: ما زالوا ينظرون إليه شفيعاً، قدّيساً، محاربا ًبطلاً حارساً حارثاً كما قلت في مقدمتك. ما زالوا ينظرون إليه مصدراً ومصدّراً للأمان والطمأنينة في هذه المنطقة. على الرغم من الكوارث العديدة التي حلّت بهم على مدى 1,600 عام من عمر حكايته، ما زالوا مطمئنّين إلى أن وجود هذا الدير في هذه المنطقة يحميهم، إلى أن وجود روحه التي تقطن فيه وتطوف الوادي تحمي الوادي. على مدى الخمس سنوات الأخيرة من الكارثة السورية التي نعيش هم مطمئنّون إلى أن هذا الوادي سيبقى بخير ما دام مار جرجس فيه باعتقادهم. على الرغم من تطوّر الثقافة واختلافها، ما زلنا نرى أيقونة مار جرجس تحت وسادة أية جدّة في هذا الوادي.

غسان الشامي: أية جدّة ... تحت وسادة أيّ حفيد؟

ناجي درويش: نعم. نراه خلفيّة للخلوي لأي حفيد في هذا الوادي.

غسان الشامي: من الوسادة إلى الهاتف المحمول.

ناجي درويش: نعم. إذاً مار جرجس هو شفيع هذه المنطقة. هو القدّيس الأكثر شهرة. هو المنافس لأيقونة السيّدة العذراء والذي تكاد تتفوّق أيقونته على أيقونتها في هذه المنطقة. هو روح هذه المنطقة، نستطيع القول، لدى كثيرين من سكّانها.

غسان الشامي: يقول البعض إنه منذ 50 عاماً على سبيل المثال كانت الحافلات التي تذهب من هذا الوادي إلى المدن، على مقدّمة سيارات النقل الكبيرة صوَر لمار جرجس للدلالة على المنطقة. هل هذا ما زال موجوداً؟ أو ماذا يعني هذا الأمر في الإرث الشعبي لهذه المنطقة؟ هذه المنطقة كنموذج لأهل المشرق.

ناجي درويش: ليس لأهل هذه المنطقة فقط. أستطيع القول إنه logo يطبع هذه المنطقة، شعار لدى عموم أهل بلاد الشام.
حين يرون صورته على حافلة منذ 50 عاماً، على قلّتها حينها، كانوا يعرفون أن هذه الحافلة من هذه المنطقة لأن أيقونة مار جرجس هي الشعار الذي يطبع أهل هذه المنطقة. أمّا
slogan لهذا الـlogo فهو عبارة "يا مار جرجس دخيلك". حين يقع أحد هنا يقولون: يا مار جرجس دخيلك. يكادون ينسون أن يقولوا: يا يسوع أو يا عذرا. هذا الشعار هو الحامي للحافلات. مار جرجس هو حامي السفر إذاً، حامي الدرب. هذا الشعار منذ 50 عاماً تحوّل إلى أيقونة تجدها في أية حافلة اليوم صغيرة أو كبيرة في هذه المنطقة.

غسان الشامي: ولكن من الداخل.

ناجي درويش: من الداخل، من الداخل.

غسان الشامي: دكتور ديبان، كان مار جرجس الخضر يجمع المسلمين والمسيحيين في كل عيد في 23 نيسان، ليس في هذه المنطقة فحسب بل في أغلب المناطق المُختلطة في المشرق. هل لا يزال للآن له هذا الحضور بين المسلمين؟

عصام ديبان: بدايةً شكراً لهذه الفرصة الطيّبة وللحديث عن هذا الموضوع الشائق. في واقع الأمر، مار جرجس الخضر هو جسر عابر، عابر للطوائف وعابر للمذاهب. كان جسراً رابطاً بين المسيحيين والمسلمين على مدى قرون عديدة، كما أنه رابط بين مذاهب المسلمين المختلفة. ولأنه رابط، بتقديري ورأيي الشخصي طبعاً، لا أُلزِم به أحداً، أنه تم استهداف هذا الجسر.
ومنذ مطلع القرن العشرين وبالدرجة الأولى، إن كنا أكثر دقّة في أواسط القرن العشرين، استُهدف هذا الجسر لأنه يمثّل رابطاً. والاستهداف تم من خلال الحديث عن السيّد الخضر --عليه السلام-- كما ورد ذكره في القرآن، فتم الحديث عنه وفقاً لأئمّة بعض المذاهب الإسلامية بأن كل ما ذُكر في الروايات عن الخضر هو مكذوب. وعلى رأس هؤلاء الأئمّة ابن الجوزي وأحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيّم وإلى ما هنالك.

غسان الشامي: متى ما أتينا إلى ابن تيمية...

عصام ديبان: وهنا النقطة الأساس والمخيفة في الأمر أن هذه الفرقة كان لها تأثير كبير من أواسط القرن العشرين في منطقة بلاد الشام عموماً وفي سورية إذا أردنا أن نتحدّث بالخصوص.

غسان الشامي: ولكن في طفولتك مثلاً كعائلة، ماذا كانت علاقتكم بالخضر، بمار جرجس؟

عصام ديبان: بالنسبة لي كطفل على سبيل المثال لا الحصر، وأنا لست مسيحياً وإنما مسلماً، كنت أعرف مار جرجس قبل معرفتي الخضر. وعرفت هذا الدير قبل أن أعرف أن هناك مقامات للخضر. لاحقاً عرفت وتفتّقت عندي هذه المعلومة أو الذاكرة وهذا الربط الجميل والرائع بين مار جرجس المُخلّص والخضر المُخلّص، بين مار جرجس الشفيع والخضر الشفيع. فالخضر هو شفيع معظم المذاهب الموجودة في هذه المنطقة بدءاً من درعا جنوباً إلى حلب شمالاً، ومن دير الزور شرقاً إلى اللاذقية غرباً. تجد أن كل الناس في هذه المنطقة كان لديهم شفيع. فكثيراً ما كنا نخلط بين الاسمين، ربما هما شخص واحد، المهم في الأمر أنه شفيعنا وهو مندوهنا في الملمّات والأزمات على مدار كل هذه السنوات السابقة.

غسان الشامي: إذاً، لنذهب إلى عمق هذه المسألة. ماذا يعني الخضر اسماً وفعلاً في الإسلام؟

عصام ديبان: لقد ورد ذكر الفتى الصالح أو العبد الصالح في القرآن الكريم مرة واحدة في القصة الشهيرة مع موسى --عليه السلام--. وجاءت التفسيرات أن هذا الفتى الصالح، البعض أخطأ فيها وقال هو آصف بن أشعيا، والبعض قال عزير. لكن غالبية الروايات تقول إنه الخضر. ولكن هل هو نبيّ؟ هل هو ملاك؟ بمعنى آخر، هل هو بشري أو نبيّ؟ القائل بأنه ملاك كان ضعيفاً جداً، وأجمعت الروايات عموماً على أنه بشري. وطالما نحن نقول الآن إنه بشري فيجب أن نقول: هل هو نبيّ أو وليّ صالح أو عبد صالح؟ واختلفت الفِرَق الإسلامية واختلفت الروايات في شأن هذا العبد الصالح. فمنهم مَن قال إنه نبيّ ودعم حجّته بأنه لا يمكن لموسى الكليم، وهو الأكثر قرباً من الله وكان يأتيه الوحي مباشرةً من الله --عزّ وجلّ--، فكيف يمكن أن يبحث عن شخص ليتعلّم منه والذي كان هو الخضر --عليه السلام--؟ وبالتالي، قالوا إنه نبيّ لأنه لا يجوز لنبيّ أن يتعلّم من غير نبيّ. وهناك فرقة تقول إنه ليس نبيّاً وإنما هو وليّ صالح. وانقسمت الآراء في هذا الإطار، هل هو ابن آدم؟ فمنهم مَن قال: اسمه الخضر وهو من آدم من صلبه. ومنهم مَن قال إنه خضراويه بن قابيل بن آدم. وأكثر الروايات، دعنا نقول، تكراراً أو صدقية تقول إن اسمه بَليا، بفتح الباء، بن مالكان بن أرفخشد بن سام بن نوح.

غسان الشامي: أيضاً أريد منك تعريف اسم الخضر. مثلاً في فلسطين والأردن يقولون: الخضر الأخضر أو الخضر أبو العبّاس. بهذا المعنى من أين أتى؟

عصام ديبان: في ما يتعلّق بتسميته الخضر، وطالما اتّفقنا أن معظم الروايات قالت إن اسمه بليا، إذاً هي صفة. الأحاديث تقول إنه جلس على فروة بيضاء فرفرفت خلفه خضراء. وفُسّرت هذه الفروة بأنها أي جزء من اليابسة يجلس عليه الخضر فيتحوّل إلى أخضر. لذلك لُقّب هذا العبد الصالح بالخضر لأنه يحوّل كل ما يلمسه أو يجلس عليه إلى خضرة وزاهية. ومن هنا جاء ربطه بالخضرة والعطاء والنماء. وهذا أيضاً يلتقي بالمفهوم عن مار جرجس أيضاَ. وهذه نقطة رابطة.

غسان الشامي: كحارث وزارع.

عصام ديبان: تماماَ، وهو شفيع الفلّاحين.

غسان الشامي: بمعنى أنه دائماً خلفه تنمو النباتات والخضرة.

عصام ديبان: تماماً، تماماً في هذا الإطار.

غسان الشامي: أستاذ ناجي، الصورة الأيقونية الملتصقة بالبيوت والكنائس التي تحدّثتَ عنها لمار جرجس بوسائد الكهول وهواتف الصغار: شاب جميل، حصان أبيض، رمح، صبيّة، تنّين. هناك تنّين هو محور القضية الجرجسية. ماذا يعني قتل التنّين في الإرث المسيحي؟

ناجي درويش: أستطيع العودة إلى ما قبل الإرث المسيحي. التنين هو الشر. في الحكايات القديمة، التنين هو تمساح نهر النيل الذي قتله الإله حورس، إله الحياة لدى المصريين.

غسان الشامي: سأناقش موضوع ما قبل المسيحية. ولكن في مفهوم الشر، المسيح قيامة، أيضاً ضد الشر. التنين عودة إذاً إلى مفهوم ما قبل مسيحية.

ناجي درويش: نعم، هو عودة إلى ما قبل. هو استمرار لإرادة الإنسان لقتل الشر وانتصار الخير عليه. بكل بساطة هذا هو التنين، يرمز إلى الشر. كي لا نشعّب الموضوع كثيراً، أنا أرى أن رمح مار جرجس هو رمز انتصار الخير على الشر، الشر المجسَّد بالتنين. أرى أن هذا التنين يتغيّر في الحكايات من وحش إلى تنّين إلى تمساح. لكنه في النهاية هو الشر الذي قتله الخير المجسَّد بالفارس مار جرجس، الفارس البطل الحارث، والذي استفدت الآن من روايات الأستاذ عصام التاريخية. جميعها تصبّ في أن هذا الإنسان أو الإله أو النبيّ، أنا أعتبره نبيّاً شعبيّاً أو رمزاً وطنياً.

غسان الشامي: وهو له عيد قومي، بالمناسبة، في كثير من الدول.

ناجي درويش: تماماً، تماماً. يمكن أن ندعو إلى أن يكون رمزاً وطنياً؛ لأنه، في النهاية، الوطنية هي انتصار للخير، الوطن، على الشر. هكذا أرى مار جرجس، مار جرجس الرمز. أمّا في المسيحية، المسيحية هي عدوّ الشر ببساطة، والتنين يرمز إلى هذا الشر.

غسان الشامي: هناك لوحة خلفنا، أيقونة شهيرة لمار جرجس. قلتُ إنه.. هذا الحصان الأبيض، هذا الرمح، هذه التوشية، هذه الأيقونة، أنت كقارئ لهذا الحضور الجرجسي في الذهنية المسيحية، كيف تقرأ صوغها الشعبي؟

ناجي درويش: أستطيع أن أبسّطها أننا نرى هذه الأيقونة في جهاز كل عروس مسيحية.

غسان الشامي: في الجهاز الذي تخرج به العروس.

ناجي درويش: تحمل هذه الصورة.

غسان الشامي: معنى ذلك أننا دخلنا إلى الأنثروبولوجية، إلى علم الإنسان، نعم.

ناجي درويش: هذه الأيقونة هي رمز كما تحدّثنا سابقاً. هذا الشابّ البهيّ على حصانه الأبيض برمحه القاتل للشر، في المسيحية هو رمز لحكاية جميلة تدعو إلى استمرار الرسالة المسيحية. قد نراها مخالفة لدعوة المسيحية للسلام: الرمح والسلام. أنا أرى أن هذا الرمح هو كلمة: في البدء كان الكلمة. ألا نستطيع أن نقاتل الشر، التنّين، بالكلمة؟ من هذا المنبر، ألا نستطيع أن ندعو إلى وحدة الطوائف أو الأديان السورية التي أكبر رمز لتوحيدها هو مار جرجس، هذا الشاب الجميل البهيّ الطلعة؟ أنا أرى أن هذه الأيقونة لها ثلاثة رموز: الشاب البهيّ مار جرجس، والرمح، والتنين. والأميرة تأتي خلف الشاشة. الرمح هو الكلمة الداعية للسلام، القاتلة للشر. وحامل هذا الرمح هو رمز كما دعوته سابقاً، ويراه الكثير من السوريين أو الشاميين رمزاً وطنياً أو نبياً شعبياً.

غسان الشامي: أعزائي، أسطوريّاً يعود الدارسون بالتنّين إلى الأسطورة الأوغاريتية إذ يقابل البعل التنّين لوياتان ذا الرؤوس السبعة ويصرعه، أو إلى أسطورة الخلق البابلية ومصارعة الإله مردوخ الأفعوان لابو وقتله، أو إلى الإله أنكي أي سيّد الدنيا الذي ينتصر على التنّين كور في الميثولوجية السومرية، أو إلى الإله مردوخ الأشوري الذي يقتل الإلهة تعامت التي تتّخذ شكل التنّين لابو لها. هذا في الميثولوجية.

دكتور ديبان، كيف تقرأ علاقة الخضر ومار جرجس بالميثولوجية القديمة؟ هل هي أسطرة من خارج المنطوق الديني؟ أو هي في صلب العبادات؟

عصام ديبان: أنا أرى أنه في هذه الحال أمامنا خياران: وفقاً لتحليلي المنطقي، إمّا أن نقول إنها كلها أسطورة، كل هذه القصص بما فيها القصص الواردة في الأحاديث والكتب، ما تُسمّى السماوية بين قوسين. هذا خيار. أمّا الخيار الآخر فأقول إنه قبل الديانات كانت هناك ديانات؛ لأن التوافق الموجود في كثير من شخوص القصص من مردوخ إلى تموز إلى أدونيس إلى الخضر إلى مار جرجس، تجد أن الرابط واحد هو: هناك الشخص المُخلّص، هناك الذي يُحارب الشر وينشر القِيَم الإنسانية، سواء سمّينا ذلك إلهاً أسطورياً أو سمّيناه نبيّاً أو سمّيناه وليّاً أو عبداً صالحاً. فأرى أن هذا الرابط لا يمكن فصله على الإطلاق، وخصوصاً إذا ما تحدّثنا عمّا تُسمّى بالديانات. فأقدم الديانات التي وصلت إلينا، هي ديانات طبعاً غير سماوية، هي ديانة بلاد ما بين النهرين، بين الرافدين، التي تعود إلى أربعة آلاف سنة قبل ميلاد السيّد المسيح. فنجد هذه الأسطورة جامعها واحد، قاسمها واحد، وأهدافها واحدة. وهناك شواهد كثيرة عليها من رُقُم وصخور منحوتة إلى آخره وأيقونات قديمة. إذاً أنا أمام خيار بين أمرين: إمّا أن آخذها جملةً على أنها من الموروث الشعبي وهي عبارة عن أساطير تهدف فقط إلى إعلاء كلمة الخير والإخلاص والنماء والعطاء والبناء، أو أنها كلمة ربّانيّة. وهناك أمر لا نعرفه عن الأديان ما قبل الديانات السماوية.

غسان الشامي: أستاذ ناجي، الأميرة في الأيقونة امرأة كانت أضحية. لاهوتيّاً هي الكنيسة. ماذا تعني حماية مار جرجس للمرأة؟ هل كانت تحتاج فعلاً إلى نصير لها؟

ناجي درويش: نعم، كانت ولا تزال. الأميرة في الأسطورة أو الحكاية هي ابنة الملك التي حين حماها مار جرجس حمى المدينة. والأميرة في اللاهوت هي الكنيسة التي حين حماها مار جرجس حمى الكنيسة. نعم، إذا تحدّثنا عن المرأة، المرأة ما زالت بحاجة للحماية في هذا المشرق، ليس لأنها أقل من الذكر. ولكننا هنا في هذا المجتمع، في هذا المكان، عبر هذا التاريخ وهذا الحاضر، ونتمنّى أن يكون المستقبل أفضل، نرى أن المرأة ما زالت تحسّ بأنها بحاجة إلى حماية. ما زال الذكر يُشعِرها بأنها بحاجة إلى حماية. أستطيع أن أقول إنه حتى الكنيسة والجامع والأديان المختلفة تُشعِر المرأة بأنها ما زالت بحاجة إلى حماية. هل حكاية مار جرجس بأنه حامي المرأة تساعد على هذه الحماية؟ أو أن علينا أن نستفيد من هذه الحكاية لتكون المرأة كما الذكر؟ تعتبر مار جرجس شفيعاً وليس حامياً، مقرّباً إلى الله وليس مُخلّصاً من دون أن تفعل هي شيئاً. المرأة للأسف ما زالت بحاجة إلى حماية.

غسان الشامي: للآن، هل لا يزال مار جرجس الأقرب في الشفاعة إلى النساء أو إلى الرجال؟

ناجي درويش: هو الأقرب إلى النساء.

غسان الشامي: أقرب إلى النساء.

ناجي درويش: أقرب إلى النساء.

غسان الشامي: شكراً. إذاً دعنا نتوقّف مع فاصل.

أعزائي، فاصل ثم نعود لمتابعة الحوار مع الدكتور عصام ديبان والأستاذ ناجي درويش عن مار جرجس الخضر من دير مار جرجس الحميراء في وادي النصارى في سورية. انتظرونا إذا أحببتم.

 

المحور الثاني

 

غسان الشامي: تحية لكم.

نتابع هذه الحلقة عن مار جرجس بتقرير عن المكان الذي نحن فيه، عن دير مار جرجس الحميراء البطريركي التابع لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأورثوذكس، وهو من أقدم الأديرة المكرّسة لمار جرجس، وموقعه في وادي النصارى في سورية ثم نعود لمتابعة هذا الحوار.

 

التقرير

 

في قلب وادي النصارى غرب مدينة حمص يقع دير مار جاورجيوس الحميراء الذي يعود إلى غروب القرن الرابع الميلادي على الرصيف الروماني. والحميراء بالآرامية تعني المنيع.

شُيّد الدير ابتداءً من القرن الرابع، وفيه ثلاث كنائس:
الأولى مغارة بابها وعتبتها شاهدان فريدان على قدمها.
وتعود الكنيسة الثانية ترجيحاً إلى القرن الثاني عشر، وتحيط بها صوامع النسّاك. بابها صغير وضيّق، وفيها جرن معمودية وإيكونوستاز من خشب الأبنوس، محفور بالطيور بين القرنين السابع والتاسع عشر، يضمّ أيقونات نادرة.
أمّا الكنيسة الثالثة فهي بازيليكية بُدئ ببنائها عام 1857. طولها 37 متراً وعرضها 17 متراً، ومدخلها عمودان من القرن السابع. أعمدتها قوطيّة، وقبّتها عربية، وأبوابها ونوافذها بيزنطية الطراز، وإيكونوستازها حُفر في دمشق من خشب البندق، ومن أهم الإيكونوستازات في المشرق، وأيقوناتها صُنعت في القدس.

كان الدير يشهد معرضين سنويين يستمران أسبوعين. ويحجّ المسيحيون والمسلمون إليه في السادس من أيار والرابع عشر من أيلول. وقد أقيمت سوق لذلك فيها مئة دكّان. توقّفت هذه الاحتفالات في ثمانينات القرن الماضي.

يذكر الطبري الدير تحت اسم "سيّدنا الخضر أبو العباس". ويحوي متحفه مخطوطة من ورق البردى أملى نصّها النبيّ محمّد على معاوية بن أبي سفيان، ووقّعها الصحابة، وتفيد بوجوب حماية المسيحيين وعدم جواز فرض الدين الإسلامي عليهم أو إكراه نسائهم على الزواج بمسلمين أو حتى إيذاء الأديار والرهبان والراهبات.

 

غسان الشامي: أهلاّ بكم مجدداً.

دكتور ديبان، القرآن الكريم لم يأتِ على ذكر الخضر صراحةً. نحن لدينا المثال، كما أسلفنا، في الآية 65 من سورة الكهف، تشير إشارة إلى هذا الوليّ أو العبد الصالح أو النبي. وحتى اللحظة لم يستقرّ لدينا توصيف فعلي لهذا القديس في المسيحية.
أنت كيف تحلّل ذلك؟ كيف تفسّر إذاً عبر السنوات الطويلة هذا الحضور الواسع في الوجدان الشعبي الإسلامي للخضر؟

عصام ديبان: رمزية الحادثة أو القصة الواردة في التنزيل في سورة الكهف بدءاً من الآية 60 حتى 65، حقيقةً أنت أمام نبي كليم لله هو موسى الكليم صاحب المعجزات، يكون بحاجة لكي يتعلم من عبد صالح. هذا لبّ القضية التي جعلت المسلمين عموماً يبحثون عن ماهية هذا العبد الصالح وكيف لنبي هو سيّدنا موسى، من أولي العزم ومدعوم بالمعجزات وإلى آخره، ويبحث عن عبد صالح ليتعلّم منه. هذه الرمزية جعلت المسلمين عموماً يبحثون عن تاريخ وتصوّر لحالاته عموماً. فقيل إنه هو الحيّ، إنه حيّ دوماً حتى يوم القيامة. واختلف المسلمون على أسباب بقائه حيّاً، أنه مات أو لم يمت. قلّة مَن قالوا بموته والغالبية قالوا بحياته كمُخلّص للبشرية للأسباب التالية: البعض قال إنه تلقّى دعوة من آدم، فهو الذي دفن جسده بعد الطوفان إذ أوصى آدم لمن يدفن جسده بعد الطوفان، يحافظ عليه ويدفنه بعد الطوفان، أن يمدّ الله بعمره حتى قيام الساعة. فتعذّر أحفاده كثيراً في دفنه بعد الطوفان، أقصد طوفان نوح، خوفاً من الخوض في هذه الأراضي المجهولة، حتى جاء الخضر ودفنه. لذلك تلقّى هذا الدعاء.

غسان الشامي: نحن أمام مرويات متواترة في أحقاب مختلفة من سيرة الأنبياء لوجود... ولكن هناك خيط يربط هذا هو عبر الخضر.

عصام ديبان: نعم. وبالتالي، جاء واستحقّ دعوة آدم بإطالة العمر إلى قيام الساعة. الرواية الأخرى وهي مهمة أيضاً أن الخضر جاء في زمن إبراهيم الخليل الذي تزامن أيضاً وزمن الإسكندر المقدوني، الإسكندر الأكبر، ذي القرنين. وهناك خلط بالسيرة بين الإسكندر ذي القرنين الأكبر والأصغر. فالفارق بينهما بحدود 2,300 سنة. أحدهما كان وزيراً هو أرسطو. أمّا ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم فكان في عهد إبراهيم الخليل، وهو أول مَن عانق إبراهيم في مكة، وقيل: هذا يسجَّل في التاريخ أول عناق. يقال إن الخضر، هذا العبد الصالح، كان على مقدمة جيوش الإسكندر المقدوني، ورافقه مستشاراً له أو وزيراً له وبحثا عن ماء الحياة.

غسان الشامي: وهذا دليل أيضاً على مار جرجس اللابس الظفر وهو قائد الألف العسكري في الذاكرة الشعبية المسيحية.

عصام ديبان: نعم، نعم، نعم.

غسان الشامي: هنا أريد أن أسألك أيضاً عن موقع الخضر في كتب السنّة في العبادة اليومية في حضوره داخل هذه الكتب.

عصام ديبان: في واقع الأمر، يجب أن نتحدّث عن الدين المحمّدي من خلال المذاهب، من خلال الطرائق. فمَن يأخذ ما يُسمّى بظاهر الدين، فهو لا يقترب إطلاقاً من سيرة الخضر على الإطلاق. أقرّ وفقاً للسيرة بأنه نبي ولا يريد أن يُقِرّ بأنه وليّ، وإن كان مسموحاً من وقت الحلقة ربما.

غسان الشامي: سأذهب إلى هناك. لذلك أنا حدّدت في كتب أهل السنّة.

عصام ديبان: إذاً في كتب أهل السنّة، مَن قال بأنه نبي وكفى، وجاء حجّة ليتعلّم منه...

غسان الشامي: هو موجود في البخاري.

عصام ديبان: نعم، نعم. هناك روايات كثيرة تقول إن العبد الصالح هو مَن حدّث به محمّد بأنه الخضر. لكنهم اختلفوا في ما يتعلق بـهل بقي حيّاّ وعاصر الرسول الأكرم محمّداً أو لم يعاصره، وهل بقي حيّاً أو لم يبقَ حيّاً. وهناك روايات كثيرة في هذا الإطار. وانقسمت هذه الفرق الإسلامية حول أنه حيّ أو غير ذلك.

غسان الشامي: إذاً، أستاذ ناجي، في الإرث المسيحي الجرجسي، لاحظ كلمة الإرث الجرجسي، هي كلمة كبيرة فعلاً، ولكن هذا الانتشار الكبير لحضور مار جرجس يدفعنا إلى هذه التسمية. ولكن هذا الإرث ينحو نحو المفهوم الخلاصي، خلاص المتألّمين من الشرور. لماذا يلجأ المؤمنون إلى قدّيس بعينه بغية الشفاعة، ولا يلجأون إلى قدّيس آخر؟

ناجي درويش: نعود إلى حكاية القديس إذا ما اعتبرنا مار جرجس قدّيساً.

غسان الشامي: هو في نظر الكنيسة قدّيس.

ناجي درويش: في نظر الكنيسة قدّيس.

غسان الشامي: منذ 404 هو قدّيس. تأخّرت الكنيسة في الاعتراف بقداسته، صحيح. ولكن في الـ404 هو قدّيس.

ناجي درويش: هذا القديس بنظر الكنيسة، في المفهوم الشعبي دائماً المؤمنون يبحثون عن هذا المُخلّص أو هذا الشفيع لأنه تألّم قبلهم. وهذا أساس الدين المسيحي.

غسان الشامي: هو تألّم عنهم.

ناجي درويش: تألّم لأجلهم، نعم. مار جرجس أيضاً في الرواية المسيحية عُذّب وتألّم دفاعاً عن إيمانه المسيحي. ربما هم يعتبرون أن هذا القدّيس قطع درباً ما من دربهم على درب الجلجلة. يعتبرون أن تعلّقهم بهذا القدّيس واعتباره شفيعاً لهم سيختصر عليهم درب الآلام الذي يعتقدون أنهم سيتعرّضون له. فما دام هذا القديس قد تعرّض للآلام لأجلهم، فلماذا لا يلجأون إليه ليختصر عليهم درباً طويلاً قد يقطعونه ما دام هو قطع جزءاً منه عنهم؟ هكذا في اعتقادي ينظر المؤمنون إلى القديسين الشفعاء الذين تعذّبوا قبلهم. أعتقد أن هذا هو جوهر الإيمان المسيحي أن يسوع صُلب وقام لأجلهم.

غسان الشامي: وأن مار جرجس تعذّب...

ناجي درويش: تعذّب لأجلهم. وغيره من القديسين الشهداء، وهو سيّد الشهداء في اعتقادهم، هم تعذّبوا لأجلهم. فلو آمنوا بهؤلاء الشفعاء وطلبوا منهم أن يكونوا شفعاء لدى الرب لهم، فهم سيختصرون جزءاً من عذاباتهم التي يعتقدون أنهم سيعيشونها على هذه الأرض.

غسان الشامي: في قراءة لـتروبارية مار جرجس، النص الذي يقال ويرتَّل في الكنيسة، الكنيسة جمعاء، كي لا أقرأه بالكامل ولكن توصّف مار جرجس تقول إنه محرِّر ومُعتِق: يحرّر العبيد، وهو عاضد ونصير، هو طبيب وشافٍ، مكافح ومحارب.
أين تضع كل هذه الصفات الكمالية لقديس في سياق الإيمان التاريخي المسيحي؟

ناجي درويش: أنت قلت هي كمالية. المؤمنون دائماً يبحثون عن أن يكونوا مسيحيين كاملين. هم لا يستطيعون. يرون هذه الصفات في هذا القديس وغيره. ولكنها تبدو واضحة أكثر في تروباوية مار جرجس. هو أيضاً وزّع ماله على الفقراء. هو فعل الكثير. هو ضحّى لأجلهم. هم يعتقدون أنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الكمال الذي يطلبه منهم الرب. فما دام هذا الشفيع قد وصل إلى هذا الكمال، فهم يدفعون بأنفسهم أو يدفعهم إيمانهم إلى الإيمان بكل هذا الكمال لدى مار جرجس ليكون شفيعاً لهم لدى الرب. هم لا يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الكمال، أكرّر. فهم يطلبون منه أن يكون شفيعاً أو يتشبّهون به. نحن نريد أن نكون...

غسان الشامي: هذه رموزية. أنا لديّ هذه الشفاعة التي يجب أن أكون على مثالها؟

ناجي درويش: لا أستطيع أن أكون على مثالها، فاشفع لي يا رب لأنّي أحاول أن أكون على مثالها. هكذا يعتقدون.

غسان الشامي: دكتور ديبان، المذهب الشيعي الاثنا عشري وبقية المذاهب الأخرى الإسلامية أين تضع موضع الخضر؟

عصام ديبان: الخضر حاضر في المذاهب الشيعية والاثني عشرية عموماً، حاضر بقوّة كبيرة جداً، على خلاف حضوره في باقي المذاهب الإسلامية، ولأسباب عدّة. أبرز تلك الأسباب أن المذهب الشيعي يعتمد على الإمامية. وفي نهاية سلسلة الأئمّة هناك الإمام القائم المهدي المؤمَّل المُنتظر الشفيع النذير. هناك تبرير للغيبة وهذه الجدلية بين حال الموت والحياة. جدلية الحياة والموت كانت تؤثّر على الإنسان، فهل يموت؟ هل يبقى؟ هذه الجدلية أُريدَ من خلال قصة سيّدنا الخضر دعم قصة الإمام المهدي. فإن بقي الوليّ الصالح حيّاً إلى قيام الساعة فهذا أمر طبيعي أن يبقى الإمام المعصوم المهدي صاحب الزمان أو آخر الزمان، أن يبقى حتى آخر الزمان. وقيل في هذا الإطار جملة من الأسباب: لماذا يجب أن يبقى الوليّ الصالح الخضر حيّاً إلى قيام الساعة؟ السبب الأول أو الدافع الأول لذلك أنه يجب أن يبقى حتى يجابه المسيح الدجّال، بين قوسين، في آخر الزمان لأنه هو الوحيد الذي سيعرفه ويعرّف الناس به. وهناك رواية جميلة جداً، ولو كانت من الموروث حول أن الخضر التقى، وهذا ما أُنبئ به، التقى الدجّال فقال له: أقسم بالله أنك أنت الدجّال، أمام جمع من الناس. فردّ عليه الدجّال مخاطباً الناس، قال: ماذا تقولون فيّ لو قتلته وأحييته؟ ومكّنه الله من الخضر فقتله وأحياه. فقال له الجمع: أنت الصادق. فيقوم الخضر ليقول له: أنا الآن أكثر ثقة بأنك أنت الدجّال. فهذه واحدة من الأسباب أو الدوافع التي دفعت الحال الإيمانية بأن الخضر حيّ.

غسان الشامي: ولكن في مرويات الشيعة الاثني عشرية، يروى عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق أن الخضر نبيّ مرسَل بعثه الله إلى قومه فدعاهم إلى توحيده. وأيضاً لدى أئمّة كثيرين هناك توصيفات للخضر. إلامَ يرمز هذا الحضور المتواتر والمتواصل للخضر عند أئمّة الشيعة؟

عصام ديبان: هناك جملة من الأحداث أو الحوادث المروية عند أهل الشيعة عن الخضر في ما يتعلق بلقائه الرسول الأكرم، وكان مصاحباً له علي بن أبي طالب --عليه السلام-- ومعه الحسن. هذه نقطة مهمة جداً، تكذَّب هذه الحادثة في باقي الفرق الإسلامية. فسلّم على الرسول الأكرم ثم سلّم على علي بن أبي طالب وناداه بالخليفة الرابع. هذه نقطة مهمة جداً تتّفق عليها المذاهب الاثني عشرية عموماً. فيسأل علي بن أبي طالب محمّداً: كيف أكون الخليفة الرابع؟ فقال له: نعم، أنت الخليفة الرابع. فآدم كان الخليفة الأول خليفة الله في الأرض، ثم داود الخليفة الثاني، ثم هارون خليفة موسى، وأنت خليفتي. هذا من جانب.
من جانب آخر، تركيز الاثني عشرية على الأئمّة المعصومين لأن في هذه الرواية سلّم عليه ثم سلّم على الحسن ومن بعده على الحسين ومن بعده على علي زين العابدين بن الحسين وسلّم عليهم على الرغم من أنهم غير موجودين. أي بمعنى آخر، جاء الإقرار بالاثني عشر إماماّ عن طريق الخضر بحضور السيّد محمّد الأكرم.

غسان الشامي: أعزائي، لمار جرجس صفة عالمية. عالمياً هو جاورجيوس، جرجس، جريس، جورج، جرجي، يوري، جرجيس، كيوركيس، خورخي. اسم انتشر في أسقاع الأرض. اتّخذته روسيا شفيعاً كما قلنا. بنت أديرة وكنائس. أيقونته شعار الجيش. ... على اسمه شفيع بريطانيا، وملوك بريطانيا على اسمه. مكرَّم في فرنسا، شفيع جنوا، شفيع ألمانيا والبرتغال واليونان وزامبيا، وفلسطين أيضاً وهو رمز بيروت وجورجيا وجنوا وموسكو، وملاذ المزارعين والخيّالة.

أستاذ ناجي، كل هذا، هذا الذهاب إلى العالمية، كيف تقرأ مار جرجس عالمياً؟ كيف تقرأ هذا الانتقال من شفيع قديس ملاذ المزارعين والنساء في الشرق إلى هذا المقاتل والشفيع في الغرب؟

ناجي درويش: أقرأه عبر الرواية التي تقول إن الحملات الصليبية على هذا المشرق...

غسان الشامي: لنسمِّها حملات الفرنجة.

ناجي درويش: حملات الفرنجة على هذا المشرق، حين بدأ ريتشارد قلب الأسد يقول إن مار جرجس هو مَن يحمي جيشه.
ولا أدري إن كان من هنا اشتُقّ علم بريطانيا الذي يحمل الدم وهو علم مار جرجس في علم إنكلترا. حين قال ريتشارد قلب الأسد إن مار جرجس هو مَن يحمي هذا الجيش وهو مَن يقتل وهو مَن يذبح، وفي الوقت نفسه مسيحيو هذا المشرق كانوا يعتقدون أن مار جرجس الحارث الحارس الفلّاح المزارع الطيّب هو مَن يدافع عنهم في وجه هؤلاء. ربما هذه الحملات حين أتت وآمن جنودها بهذه الرواية بأن هذا المحارب الذي يحارب معهم ويتقدّم صفوفهم في اعتقادهم هو مَن حماهم في انتصاراتهم وربما لم يحمِهم في هزائمهم. ولكنهم حين عادوا نقلوا معهم مار جرجس إلى الغرب وانتشر بطلاً محارباً لديهم. من هذا انتشر هذا الاسم عالمياً. وعدّدت أنت ما عدّدت من أسماء تنتشر عبر العالم بأسره. نحن في المقابل نرى مار جرجس في فلسطين في عشرات القرى، نراه في مصر في أكثر من 400 قرية، نراه في سورية في عشرات المقامات والأديرة في مقابل هذا الغرب. نحن لسنا أعداء للغرب. لا أريد أن أقول هذا الكلام. هذا الانتشار بهذه الطريقة التي استخدمته الحملات الفرنجية بطريقة سيّئة ربما نقل اسما آراميا إلى الغرب، ربما نقل حكاية من هذه المنطقة. حين نتحدّث عن مار جرجس نحن دائماً ننظر إلى منافسه قلعة الحصن، منافسه في الشهرة العالمية طبعاّ. نحن نرى أن أطفال أوروبا حين يذهبون إلى البحر يبنون حصن الفرسان الذي هو قلعة "شيفلييه"، وهم يحلمون بالعودة إلى هنا. فهل هم يحلمون بالعودة محاربين عبر مار جرجس؟

غسان الشامي: هل يحتاج المسيحيون دائماّ إلى محاربين ليقاتلوا عنهم مثلاً؟

ناجي درويش: في هذا المشرق؟

غسان الشامي: نعم.

ناجي درويش: أعتقد أن تربيتهم في القرون الأخيرة تدعوهم إلى ذلك ولو أن هذا خاطئ. أعتقد أنهم هم يجب أن يكونوا محاربين، محاربين بالوسائل التي هم مبدعون بها: بالكلمة كما قلت، بالثقافة.

غسان الشامي: ليس بالضرورة السيف. ما أُخذ بالسيف، بالسيف يؤخذ.

ناجي درويش: ليس بالضرورة السيف، نعم.

غسان الشامي: دكتور ديبان، اسمح لي أن أنهي معك. إلامَ تردّ أيضاً أنت من خلال الثقافة التي تمتلكها والقراءة التي تملكها استخدام الفرنجة أيقونة جرجس؟ ألم يأخذوا هذا القديس من حقوله إلى عسكرهم؟

عصام ديبان: هذه هي السياسة، عندما تتلاعب السياسة بالدين.

غسان الشامي: تدخل في كل شيء فتفسده.

عصام ديبان: فتفسده. وعلى مرّ العصور نجد أن الأيقونات أو الرمزية في حياتنا سواء كنا من أصحاب الديانات السماوية أو من أصحاب الآلهة المتعدّدة، يؤخذ الرمز، أجلّ رمز في هذه المرحلة ويدعى بأنه هو صليبنا وحامينا وشفيعنا والمقاتل معنا وهو الذي يقع على فرسانه ويدافع عنّا، لكي نبرّر مآسينا وظلمنا وقتلنا الآخر. وشعار حملات الفرنجة حقيقةً كانت بهذا الشكل.
حتى قيل إن مار جرجس حيّ مع فرسانه يقاتلون معكم ولكنكم لا ترونهم. لهذه الدرجة سُيّست القضية. وهذا أيضاً في الدين الإسلامي نجده الآن، الآن ومنذ 1,400 سنة؛ نضع شعاراً جميلاً جداً، شعاراً رائعاً. في الدين الإسلامي لا توجد لدينا أيقونات، ولكن لدينا الله أكبر، لدينا الله ومحمّد أو محمّد رسول الله. هذه الشعارات كالأيقونة التي أخذها الفرنجة في حروبهم للقتل والتدمير...

غسان الشامي: يأخذها داعش الآن.

عصام ديبان: أخذها الآن داعش ومَن قبلهم لقتل الآخر بحجّة أنه مدعوم إلهياً.

غسان الشامي: شكراً جزيلاً. شكراً لكما.

نحن أمّة كم من تنّين قتلت، وكم تنيناً ينتظرها! لذلك نحتاج إلى الجرجسيين الخضر في مسيرة حياتنا ونضالنا كي نخلص من الشر في بلادنا وأيضاّ في العالم.

شكراً للأستاذ ناجي درويش على حضوره في "أجراس المشرق".

ناجي درويش: شكراً لكم.

غسان الشامي: شكراً للأستاذ عصام ديبان على حضوره.
شكراً للزملاء في البرنامج وقناة الميادين الذين قرعوا معي هذه الأجراس من وادي النصارى في سورية:
جهاد نخلة، لورا موراني، حازم مجذوب.
شكراً لكم على طيب متابعتكم.
شكراً للأرشمندريت رئيس هذا الدير ولغبطة البطريرك يوحنا العاشر.

دائماً

سلام عليكم وسلام لكم.