ما لم يكن في الحسبان
-
ما لم يكن في الحسبان (Colette Raker)
استيقظتْ نغم، إبنةُ العشرين عاماً باكراً جداً هذا الصباح، وقد سبقتِ الشمسَ في شروقها، فهذا يومها المنتظر منذ شهور عديدة. قامتْ واحتستْ قهوتَها السوداء، لتسارعَ بتوضيبِ غرفتها على عَجَلٍ، فلا وقتَ لديها، وعليها أن تنجزَ المهام قبلَ السابعة مساء.
استحمّتْ وصوتُ غنائها يطربُ الآذانُ حبّاً ونغماً، من ثم خرجَتْ وتوجَّهَتْ نحو خزانتها، واختارَتْ من الفساتين أجملها، إنتقتِ الثوبَ الزهريَّ المطرّز "بالدانتيل"، الذي كانت قد اشترَتْهُ أثناء سفرها إلى باريس الصيف الماضي.
انتَعَلتْ حذاءَها الأبيض الأنيق، ومن ثم تناولَتِ المشطَ، وبدأَتْ بتسريحِ اللّيل المنسدلِ من رأسِها حتى خصرها، لم تنسَ نغم عطرَها - أو عطره - المفضّل الذي عانق مع قلاّدتها الذهبية عنقها الممشوق.
ركبَتْ سيّارَتها وتوجَّهَتْ نحو شاطئ العشّاق، ما أن وصلَتْ حتى اتَّخذَتْ من مقعدٍ على جانبِ الشاطئ خليلاً لها بانتظارِ فارسها.
"آااه لقد طال الانتظارُ والشوق أعياني. أصمتي يا نغم إنّه قادم، قادم. لقد آنَ أوانُ الوصال، إنَّ القادمَ جميلٌ جميلٌ جداً، هكذا هدّأَتْ نغم مشاعرَها الهائجة، لا داعي للقلق فمن انتظرَتْهُ طويلاً هو اليوم قادم اليها وسيقلبُ المعادلات كرمى لعينيها".
عند السابعةِ مساءً، أطلَّ شابٌ من بعيد، حدّقتْ به مليّاً وصاحتْ: "إنّه هادي". هو ونغم حبيبان منذُ عامهما الأول في الجامعة، درسا سوياً إلى أن اضطرَّ هادي للسفرِ خارج البلد، في مَهمّةٍ هي الخطوة الأولى له كي يستقرَّ في إحدى المدن الأوروبية. بالطبع لن يرحلَ هادي من دونَ نغم، فهو قد ذهَبَ في رحلةٍ استكشافيةٍ وتدريبيةٍ أولاً، كي يعودَ ويأخذها معهُ بعدَ أن يُقيما عرسهما الموعود.
ما أن وصلَ هادي حتى سقطت دموعُ الجميلةِ مخبرةً عن شوقِها الغزير، بينما هادي عانقها بابتسامةٍ تنمُّ عن حبٍّ ترعرعَ في جوفِه - وربما – قد نما مع الأيام.
جلسا وتحدثا حتى وصلا إلى أقدسِ المواضيع، زواجهما. متى؟ وأين؟ متى سنسافرُ سوياً يا حبيبي؟ تسألُ نغم بلهفة. لكن هادي هذه المرّة ليس كسابقاتِها من المرات، تارةً يشردُ وأخرى يبتسمُ ابتسامةً توحي بالوداع، لقد نَضُبتْ عيناهُ من الحبِّ ربما.
سألَتهُ نغم حائرة "ما الذي أصابكَ؟ أراكَ شارداً؟ أو لستَ سعيداً؟ نحن معاً، لقد انتظرتَ هذه اللحظة منذ أشهر ثمانية مضت".
- إنّني سعيد، لكن...".
- لكن؟ ماذا دهاكَ؟ هل أنتَ مريض؟
- إنّني... أودُّ الحديثَ معكِ بأمر غاية في الأهمية.
- وأنا أسمعكَ جيداً، تحدّث.
تحدَّثَ هادي ونطقَ بما لم يكن في الحسبان، من دون إنذارٍ أشعلَ نيرانَ قلبها، فقد صرَّحَ بأنَّه اعتزلَ غرَامها، وأنَّ ما مرّا به كان طيشاً لا معنى له. أَصابتِ الدهشةُ معالمَ وجهِ الرقيقة، لا تستطيعُ تصديقَ ما سمعَته أذناها، كيفَ للحبِّ أن يُدفن، كيفَ للعشقِ أن يُشيّعَ إلى مثواه الأخير، كيفَ للوعودِ أن تَكذبَ وكيفَ للعيونِ أن تَخون؟ أفرغَ ما في جوفِهِ من أقاويلَ مؤلمةٍ ومضى، من دون أن يعتذرَ من قلبِها الطريحِ على جُلجُلة الحبّ.
عادَتِ الفتاةُ التائهةُ في شوارعِ الأفكار تجرُّ خطاها حتى وصلَتْ غرفَتَها، وجلسَتْ تناجي الليلَ، وتنوحُ على فراقِ الحبيبِ الذي باعَ الحبَّ بفرنكٍ أوروبيّ.
أحسَّتْ نغم بصوتِ أمّها يناديها مردِّداً: "هيّا استيقظي يا إبنتي، إنَّها التاسعةُ صباحاً، وهادي في الخارج ينتظركِ منذُ نصف ساعة".
عندَها استيقظَتْ نغم مذعورةً من نومِها وصوتُ هادي اجتاحَ أذُنيها قائلاً: "لا وقتَ لدينا يا نغم، عليكِ ألا تنسي إنّنا على موعدٍ مع جلسةِ تصويرٍ خارجي، بُعَيدَ عودتك من صالونِ تصفيفِ الشعر، حتى نكونَ على أتمِّ الجهوزيةِ عندَ السابعةِ مساءً".
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]