لماذا تراجع الاهتمام بالمجلات الأدبية؟
عوامِل كثيرة دفعت بالمجلات الأدبية إلى الوراء في المشهد الثقافي العربي، ما هي؟
يبدو أن المجلات الأدبية الوَرَقية المُتخصَِّصة تعاني من أزمة تراجُع في المبيعات والتوزيع، فهي على ما يظهر الأكثر تضرّراً بعد الصحف من مسألة التطوّر الإلكتروني.
والسبب هو عدم قُدرتها على التكيّف مع روح العصر بشأن الجَذْب والانتشار. إنّ ما تعانيه المجلات الأدبية من انحسار، سببه عدم قُدرتها على التكيّف الفني، فموضوعاتها طويلة ومادتها جامِدة في بعض الأحيان، وتصاميمها تقليدية لا تتقبّل التطوير ولا تتكيّف مع مزاجية القرّاء الشباب ولا مع الثورة التكنولوجية.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار تراجُع التوزيع الوَرَقي، وقِدَم هذه المنظومة في الدول العربية فإنّ هذه المجلات تعاني في الوقت الحالي من حَرَجٍ بالغ.
لا زالت عشرات المجلات الأدبية تصدر في الدول العربية، لكنّ الكثير منها بات يلجأ أو يفضّل المقالات المُتَرْجَمة عن لغات أجنبية تفرد لها العديد من الصفحات، وهي على أهميّتها إلا أنها بدأت تقلّص الحيّز المُعطى للكاتب والمُثقّف الذي يكتب باللغة العربية، وهذا لعب دوراً في إحجام كثير من الكُتّاب عن كتابة المقالات والأبحاث الثقافية لتلك المجلات.
بالرغم من التراجُع الكبير في أعداد المجلات الأدبية الصادِرة في عالمنا العربي اليوم مُقارًنة بالحال التي كانت عليه منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى بداية السبعينيات، إلا أنّ العديد منها ما زالت تُجاهِد للبقاء بالرغم من الضغوطات الكبيرة التي تتعرَّض لها.
هكذا لجأت بعض المجلات إلى إتّباع استراتيجيات جديدة للحفاظ على إصدارها الوَرَقي، ومنها مثلاً، "مجلة الدوحة" التي عمدت إلى تقليص عدد صفحاتها مُعلِّلة ذلك على لسان رئيس تحريرها بـــ "التركيز على المضمون الأكثر فاعلية وتشابُكاً مع الراهِن الثقافي العربي في القضايا الفكرية والثقافية السائِرة" (العدد 147 لعام 2020)، بالمقابل تُراهن مجلة "نزوى" العُمانية وهي تحتفي بعددها رقم مائة على البقاء والاستمرارية.
تلك حال كثير من المجلات الأدبية التي مازالت مُصرّة على الصدور في هذا الزمن الصعب وتُجاهِد لتُبقي تواصلها مع القارئ العربي.
منذ نشأة الصحافة والمجلات المُهتّمة بالشأن الأدبي التي بدأت بالظهور في القرن التاسع عشر في مصر مع ظهور الطباعة، نلاحظ تحوّل بعضها إلى مؤسّسات ثقافية تصدر الكتب والأعمال الأدبية والفكرية المختلفة، ومنها "مجلة الهلال" التي أصدرها اللبناني جرجي زيدان عام 1892 والتي تستمر في الصدور إلى يومنا هذا، وكذلك "مجلة الآداب اللبنانية" لصاحبها سهيل إدريس التي صدر عددها الأول عام 1953 واستمرت بالصدور ورقياً حتى العام 2012 لتتوقّف وتُعاوِد إصدارها إلكترونياً عام 2015.
هاتان المجلتان أصبحتا من أشهر وأهم المؤسّسات الثقافية العربية تصدر عنهما العديد من الأعمال الأدبية والفكرية والثقافية، في الوقت الذي أغلقت فيه الكثير من المجلات التي كانت علامات فارِقة في الأوساط الثقافية مثل "مجلة شعر" التي أسّستها مجموعة من الشعراء منهم يوسف الخال وأدونيس وأنسي الحاج، وكتبت فيها أسماء كبيرة مثل محمود درويش، اضطرت إلى التوقّف عن الصدور.
كل هذا يضعنا أمام إشارات استفهام كبيرة عن الأسباب وراء تنحّي هذا النوع من الصحافة في عالمنا العربي.
وفي ظلّ تراجُع الصحافة الخاصة وتحديداً المجلات الأدبية، بدأت المؤسّسات الثقافية الحكومية مُمثّلة بوزارات الثقافة بتصدّر المشهد الثقافي و"سدّ الفراغ"، فأخذت بدعم والدَفْع بعددٍ من المجلات الأدبية.
ربما لا يُخفى على المُتلقّي التبعات التي ترتّبت على ذلك والآثار التي تركها غياب أو تقليص الصحافة الخاصة، من تدخّلات في المواضيع ومضامين المواد المُعدَّة للنشر لأنها لا تتماشى مع سياسة المجلة أو الدولة المُموّلة، فضلاً عن المحسوبيات المعروفة والتدخّلات الشخصية في مَنْعٍ لبعض الأقلام من الكتابة وإفساح المجال لآخرين.
لا نريد من هذا الكلام التبخيس بأهميّة تلك المجلات، لكنها لم تتمكّن من مواكبة التطوّر التكنولوجي وإخراج أعداد تجذب القارئ الذي نأى هو الآخر بنفسه عن اقتنائها وشرائها، فضلاً عن التكرار في الأسلوب وحتى المواضيع المُقدّمة واللهجة التي يُخاطب بها.
أما بالنسبة إلى التوزيع فحديث ذو شجون كثيرة، حيث أصبح إيصالها من بلدٍ إلى آخر يخضع لأساليب مختلفة من المُمانعة سبّبتها الأزمات السياسية والخلافات التي حصلت بين كثير من الدول العربية، حتى وصل الأمر إلى إدخالها عن طريق التهريب وبأعدادٍ محدودةٍ جداً وكأنها إحدى الممنوعات، حتى بتنا نضطر إلى حجز نُسَخِنا في وقت سابق لنتمكّن من اقتناء ما نرغب به من مجلات.
عوامِل كثيرة دفعت بالمجلات الأدبية إلى الوراء في المشهد الثقافي العربي، منها الجانب المادي الذي أجبر كثيراً منها على التوقّف عن الصدور في ظلّ غياب التمويل الذي تحتاجه، فضلاً عن تصدّر الأخبار السياسية وتعاقُب الأزمات والحروب العسكرية والاقتصادية التي أخذت الحيّز الأكبر من اهتمام الجمهور.كما أنّ غياب أو ربما "تغييب" الحركة النقدية الأدبية أسهم إلى حدٍ كبير في تراجُع الاهتمام بها.
وفي الوقت الذي تحتفي فيه مجلات أدبية أجنبية بأعمارها المُتقدّمة، تترهّل صحافتنا الأدبية. قد يكون من المفيد اليوم في ظلّ أزمة "كورونا" التي أعادت الاهتمام بالكتاب، أن يُعيد المهتمّون النظر بشأن عودة المجلة الأدبية إلى الساحة وزيادة الاهتمام بها ومواكبة التطوّر التكنولوجي لتظهر بشكلٍ ومضمونٍ يجذب ويُعيد القارئ المُتلهِّف لها، عِلماً أنها تقدِّم للقارئ مادة قد تُغنيه عن اقتناء كتاب يعجز عن شرائه في ظلّ الوضع الاقتصادي المُتردّي في الكثير من بلداننا.
في المُحصّلة، لا بدّ من تحييد الثقافة عن النزاعات السياسية، وتشجيع الاستثمار بها من دون التحكّم فيها، لعلّنا نتمكّن من الإبقاء على أقلام تُغني عقلنا العربي وتُسهِم في تغيير وإنضاج الوعي لدى المواطن العربي، وقَطْع الطريق على أولئك المُتصيدين في التطرّف، الرافِضين للتغيير والحضارة.