سَيَفي النذر

بين كل ما رأيت، كانت سيّدة، تحمل شموعاً وتركض بها. تعانق شاباً وتقبّل يديه التي قيّدتها السلاسل.

  • سَيَفي النذر
    سَيَفي النذر

25 أيار، ليس مُجرَّد ذكرى نُحييها كل عام، ليس تاريخاً. هو حاضرنا وكل مستقبلنا. هو سنوات أحيتنا وتُحيينا.

عندما هَمَمْتُ لأكتب خفت ألا أوفي هذه الأيام حقّها في الكتابة فتراجعت مراراً، وكيف لأيام الله أن تُحد بعدد كلمات. لكن الجنوب يليق به أن تُكْتَب عنه النصوص وتُنَظّم فيه القصائد. الجنوب لا يُحَدّ ببقعةٍ جغرافية. هو أبجدية المقاومة. إسم آخر للنصر. وفي أبجدية الكرامة هو العزيز الذي أذلّ الصهاينة. أما في أبجدية السماء فهو مِعراج الشهداء ومواكب الإباء. الجنوب يعني دماً وأسراً وجرحاً وشهادة ونصراً. 

 أيار، حين اشتاقت الأرض لجباههم الطاهرة، وعندما تلاقت وجوههم وتراب الجنوب، فاض الدمع وتطهّرت الأرض من رَجْسِ المُحتلّين وعملائهم.

أيار، يوم كَسَرَتِ النفوسُ الحُرّة قَيْدَ المُعتقل وَهبّ بأسُ الجنوبيين على يأس الصهاينة فاندثروا واهنين.

يوم عانقت التكبيرات زغاريد النسوة وعلا معهما صوت راني بزّي. صورة راني، الأسير فالشهيد، وهو يصرخ تُسمَع وتُشعر ترجمة قليل من فيض المُعاناة وبعض من فيض فرحة الحرية. ما أن حلّ 23 أيار حتى سمع الأسرى أول عصفور يُغرّد، كان ذلك تسبيحاً، سبحان من أعزّنا وأذلّهم. 

فكَّرت وأنا أكتب تُرى كيف مرّت آخر ليلة على الأسرى، تُرى هل رأوا في مناماتهم نوراً ساطِعاً ملأ عيونهم؟ رُبما، فهم رأوا وجه الله ما أن تحرّروا. هل رأوا حقولاً من سنابل قمح ذهبية حان وقت حصادها؟ ربما، بعد سنوات قحط وعذاب حان وقت الحرية. ترى ماذا حدّثهم الله، كيف أخفوا ابتسامة اليقين بالفرج تلك وهم يعذّبون، سبحان قلوبهم كم صبرت!

ربما قرأ الأسرى تباشير النصر في تعذيب السجّانين لهم، فهم كانوا يفرغون ضعفهم وهشاشتهم في الأسرى كلما تقدّم المقاومون في القرى المجاورة للخيام.

يومها، جهات لبنان الأربع كلها باتت جنوباً. أبناء الوطن جميعهم بكوا، زغردوا وصاحوا، وأقاموا الحفلات، يومها لم نختلف باللهجات، كانت لهجة الكرامة تُوَحّدنا.

يومها كانت شتلات التبغ تذبل فمرّ بها أسير مُحرَّر فأودعها من روحه، فحنت عليه وقبّلته. وتلك الوردة الجورية كانت مُلتفّة على نفسها، ربما كانت تخاف صوت دبّاباتهم، لكن دموع تلك السبعينية العائدة إلى منزلها بعد التهجير، روتها فنمت وربت وفاحت نصراً.

كانت قرى الجنوب تخنقها أنفاس الصهاينة وعملائهم، كيف لا وروح تلك الأرض تعذّب وأنفاس الطُهر تضيق بتلك الزنازين. كان الجنوب كيعقوب والأسرى كلهم يوسف، وبجميل الصبر وعزم المقاومة التقوا وتعانقوا فكان النصر.

لم أكن بين تلك الجموع الغفيرة، لم أنثر الورد ولم أُقبّل العائدين. شاهدتهم وتأمّلتهم مليّاً. كيف عقدت تلك السيّدة منديلها، وكيف ركض ذلك الرجل وعانق المُحرَّرين، كيف رقص الرزّ في الهواء، وكيف غنّت أشجار الزيتون الأخضر. كيف ركض أطفالٌ لم تكن الأرض تسع فرحتهم، صحيح أنهم لم يلعبوا في حقولها، ولم يتسامروا ونجوم سماء العديّسة وحولا وعيناتا، لكنهم أدركوا جيّداً أن هذه هي قراهم. هذه مواطئ قلوبهم، لِهُنا ينتمون، لهذه النسمات، لهذا التراب، لفيء شجرة السرو تلك ولبيت الجدّ ذاك.  

كان بيت الجدّ موحِشاً جداً. كان غريباً بين العملاء والصهاينة. كان مُشتاقاً لأصحابه، لقهوة الصباح وصوت الحياة ومواسم زراعة التبغ ورصّ الزيتون. كان بلا روح. أما اليوم فلا تكفُّ فيه حكايات النصر، ترويها جدّة صبرت فأعادتها فرحة التحرير عشرينيّة في عزّ ربيعها.

بين كل ما رأيت، كانت سيّدة، تحمل شموعاً وتركض بها. تعانق شاباً وتقبّل يديه التي قيّدتها السلاسل. ها قد وفّى الله نُذرها، لكنني أظنّها لا زالت تُخبّئ في منزلها شموعاً ستخرج بها يوم تتحرَّر مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، وأخرى ستُخْرجِها يوم تحريرنا لفلسطين، حينها ستكون قد أوفت كل نذورها.