شيء من بيروت
أعتزّ أنني نصف لبناني ونصف فلسطيني، لكنني اعتزّ أكثر بالرباط المصيري بين شعبي فلسطين ولبنان، فكلاها شعب واحد وقلب واحد وسيرورة واحدة ومصير واحد.
تعود علاقتي ببيروت إلى الولادة. فقد رضعتُ من حليب أمّي اللبنانية الأصل، وهي من عائلة عزَّام، المولودة في مرجعيون في الجنوب اللبناني. وتنقَّل والدها سليم للسكن من مكانٍ إلى آخر في عدَّة أماكن في لبنان سعياً للرزق، إلى أن استقرَّ نهائياً في بيروت (فرن الشباك)، حيث أُصيبَ برصاصةٍ طائشةٍ خلال الحرب الأهلية والتي أودت بحياته.
اعتادت أمّي، نايفة، وهذا هو إسمها، أن تقصّ علينا نحن الصِغار ذكرياتها عن لبنان وبيروت. وكانت تُبدي فخرها بأنها لبنانية وتصف لنا بلدها وبيروت وجمالها ببحرها وناسها، وتتمنَّى دائماً أن تعود لزيارتها بعد أن "تفتح الحدود..."، كما اعتادت القول! والتي أُغلِقَت بعد نكبة 1948. وانخرطت حكايات أمّي وذكرياتها عن بيروت ولبنان في رؤوسنا، أنا وإخوتي وأخواتي التسعة، وأصبحنا نستعيدها لاحقاً في جلساتنا العائلية في مناسباتٍ عدَّة.
جاء جدّي سليم من لبنان إلى حيفا في فلسطين في العام 1927، وذلك إثر توتّر وشجار مذهبي في جبل لبنان، ما أدّى إلى نزوح جزءٍ من السكان، بمَن فيهم جدّي، لحماية عائلته، وعمل في ميناء حيفا عتَّالاً، وهي مهنته التي عمل فيها سابقاً في مرفأ بيروت.
وعندما كنا أطفالاً نلعب في الحارة في حيّ السوق (البلدة القديمة)، وتحديداً قرب ساحة المطران، كان الكل يعرف الكل، وكان أهالي الحارة يعرفونني بــ "إبن نايفة العتّال"، نسبة إلى مهنة جدّي الذي افتخرت فيه من دون أن أعرفه. جزء من هذا الفخر ينبع من حكايات أمّي عنه واعتزازها به. انتقل جدّي عائداً إلى بيروت عام 1944، بعدما هدأت الأوضاع هناك، أما عندنا في فلسطين، فقد ارتفعت حرارة الصراع ومعركة البقاء قُبيل النكبة.
لم تفرح أمّي بزيارة لبنان وبيروت، لكنها كانت مسرورة بلقاء أختيها سلمى وجميلة. سلمى هاجرت إلى هولندا، وجميلة إلى الولايات المتحدة، وأخوها إبراهيم التقته بفترةٍ سابقة. أما إخوتها سليمة وسعاد وجميل فقد تواصلت معهم عبر الهاتف، وكانت تُكرّر والدتي بعد كل لقاء: "لم أنجح بالعودة إلى بيروت، لكنني رأيت بيروت من خلال وجوه أخواتي وإخوتي".
أول من أمس، وعند حصول الانفجار - الكارثة في مرفأ بيروت، استعدتُ كل هذا الشريط. استرجعتُ صورة جدّي العتّال في المرفأ، وتخيّلت كل جثّة تُنْتَشل من تحت الردم وكأنها جثّة جدّي. تخيَّلت كل أمّ تبكي مُفتِّشة على إبنها وكأنها أمّي.
لكن في الوقت نفسه تذكَّرت الجوانب الأخرى من حكايات أمّي: كم كانت تتباهى بوطنها وحبّها لبيروت وناسها إلى درجةٍ أنها كانت تُعايرنا وتقول:" اللبنانيين بحبو الحياة ولو على خازوق.. عندهن عزَّة نفس، وفشّ حدا بغلبهن". هكذا كانت أمّي في حياتها اليومية، فرغم الحال الاقتصادية المأساوية لعائلةٍ مُكوَّنةٍ من 12 شخصاً، كانت تشعِر كل واحد منا بأنه أمير، فتهتمّ لكل تفصيلٍ يخصّنا. كما أنها أحبَّت الحياة وكانت أنيقة ومُتباهية بنفسها. استقبلت كل مَن دخل البيت وأـشعرته بأننا بأحسن حال. لا بأس. فهي "لبنانية".
كلما كَبِرنا، كَبُر حبنا للبنان وبيروت، أحببناها أكثر عندما استقبلت الفلسطينيين، وعشقناها عندما أعادت المقاومة اللبنانية كرامتنا وعزّنا.
أعتزّ أنني نصف لبناني ونصف فلسطيني، لكنني اعتزّ أكثر بالرباط المصيري بين شعبي فلسطين ولبنان، فكلاها شعب واحد وقلب واحد وسيرورة واحدة ومصير واحد.
من معرفتي لأمّي.... أنا واثق من نهوض شعب المُعجزات من محنته مُنتصراً ومرفوع الرأس.