ثمانينيٌّ في مقهى «شباب» الحلبي

باتت الثقافة مُجرّد تصميم "جمالي" هدفه ترك انطباع - زائف في الغالب - عن المكان، من دون أن يكون لها أيّ دور في يوميّاته وأهدافه بل إن النقيض تماماً ما يحصل خاصة في المقاهي.

  • ثمانينيٌّ في مقهى «شباب» الحلبي
    ثمانينيٌّ في مقهى «شباب» الحلبي

الشَغَف بالمقاهي شُعورٌ لا أنفكّ أعبّرُ عنهُ بحماسةٍ وسرور، وأكاد لا أتركُ فرصةً تُتاحُ لي وإلا استغللتها لأحكي شغفي هذا.

دمشقُ وحلب، المدينتان المُتربّعتان على عرش المُدن التي أحبّ، المقاهي التاريخية فيهما جعلتهما مقصداً لي، تلك المقاهي العتيقة البسيطة برونقها الجميل، ومنها المقاهي التي اشتهرت بطابعها الثقافي، حتى لو فعلت الحَداثة فعلها بها، فإنّ عَبَقاً من التاريخ لا زلتُ أشتمّهُ هناك، مع نوستالجيا غريبة ممزوجة بحسرة الفاقد تجتاحني كلما ارتدت تلك المطارح...

الحنين لزمنٍ جميل لم أعشه كان يؤرقني، تُرى ما الذي يشعلُ بي جذوة الحنين لذلك الزمن؟ وما سرُّ شعوري بالانتماء إلى حُقبةٍ سبقت مولدي بعشرات الأعوام؟ حتى بُتّ مُتطرّفًا في ميولي هذه، وحادّاً في خصومتي مع كل ما يساهم في اندثار معالم ذلك الزمن ومحو آثاره. 

الحداثةُ العبثيّة اجتاحت كل شيء، شرَّع أهلُ الزمن الأبواب لها كما لو أنها ضالّتهم، ومكنّوها من نفائس تراثهم بخفةٍ واستهتار، وبحنكة اللصّ المُحترِف، سطت تلك المُخادعة على كل شيء، ولم توفّر حتى حجرات النوم وعادات القوم.

كان للمقاهي نصيبٌ وافرٌ من تلك الغزوة، تبدّل كل شيء، وحلّت التصاميم الرقمية بدل الخشب المحفور واللوحات القماشية، وبات موزّع الأنترنت وجودة سرعته ما يشغلُ بال الروّاد بدل المكتبة وما تحويه من نفائس الكتب، حتى المقاهي الحديثة التي توسَم اليوم بالثقافية هي في الغالب قالبٌ من دون محتوى، مكتبة غافيةٌ في الزاوية، ولوحات صامتة على الجُدران ومعظم الروّاد في عالمٍ آخر.

باتت الثقافة مُجرّد تصميم "جمالي" هدفه ترك انطباع - زائف في الغالب - عن المكان، من دون أن يكون لها أيّ دور في يوميّاته وأهدافه بل إن النقيض تماماً ما يحصل خاصة في المقاهي التي نصبت شاشات عملاقة كخدمة جاذِبة للروّاد لمتابعة مباريات كرة القدم، فيما الكتب على الرفوف تسدُّ آذانها من صُراخ المُشجّعين المنقسمين بين فريقين أوروبيين يتنافاسان على أرض ملعب تشهد جنباته عرضاً دعائياً للماركات العالمية التي اجتاحت نمط حياة مجتمعاتنا وجعلتها أرقاماً في مؤشّرات مبيعاتها.

مقهى شباب في حلب

حين دُعيت إلى "مقهى الشباب" في حلب، حضرت في رأسي مباشرة صورة نمطية عن مقهى حديث، معظم روّاده من شباب اليوم الغارِق في التكنولوجيا والوجبات السريعة (ولا أبرّئُ نفسي).

وصلنا إلى الزقاق الموصِل إلى المقهى بشارع بارون. بدأت الصورة في رأسي تتبدّل، وشعرت أن مشهداً مختلفاً عما توقّعته ينتظرني، فلا شيء في المحلة يوحي بذلك، العُمران القديم، المتاجر التقليدية، وباب المقهى المُشابه لأبواب البيوت الشامية القديمة، وها أنا في بهو المقهى، دار حلبية قديمة، تتوسّطها بَحرتان، وتملأها الأزهار والأشجار المختلفة، طاولات قديمة ومقاعد خشبية... وإلى جانب البهو قاعةٌ بواجهة زجاجية تطلّ عليه... ولفت انتباهي مباشرة رجلٌ ذو سحنة سمراء يحمل كتاباً... إنه نهارٌ مميّز، قلت في سرّي.

رغمَ عقودِ الزمنِ البائنةِ في خطوطِ وجهه، لم تغادرهُ مُتعةُ القراءة، لا زالَ العجوز الثمانيني يرتادُ المقهى الحلبي القديم كما أيام الشباب، يجلسُ في تلك الزاوية بعيداً عن أترابهِ المُتحلّقين حولَ موقِدة الحطب يتبادلون أطرافَ الحديث مُنتظرين حبّاتِ الكستناء حتى تنضج فوق الصوبا، في مشهدٍ لم أعهدهُ البتةَ في مقاهي اليوم، التي نزعت الحَداثة طابعها الثقافي ورونقها الجميل واستبدلتها بموزّع الأنترنت. 

صرتُ أرقبُ الرجلّ بفضولٍ كبير، رأيت جذوة شغفِه بالمعرفة والاطّلاع مُتّقدة، يسبرُ أغوار الكلمةِ غير آبهٍ بصُروفِ الدهر ولا برائحةِ البارودِ والرُكامِ المنبعثةِ من الأحياء المجاورة، ويكادُ لا يلتفتُ لشيء حوله، حتى لأصوات القذائف المنطلقةِ من الريف حيث الظلاميّون يرسلون كُتلَ النارِ نحو المدينة الضاربةِ جذورها في التاريخ.

أحاطني "الحدثُ" بطوقٍ من الدهشة، جعلني استحضرُ زمنًا لم أعشهُ، يومَ كان المقهى نادياً ثقافياً يرتادهُ الأدباء والفنّانون في بغداد ودمشق والقاهرة وبيروت ويافا، واستحضرتُ حكاية الماغوط مع المقهى المُشاد على ضفاف بردى في ريف دمشق، والذي اعتاد أن يرتادهُ الكاتبُ والأديبُ المُبدِع كل صباح مُصطحباً قلمه وأوراقه الكثيرة، وفيه كتب مسرحياته «كاسك يا وطن» و«غربة» وغيرها... وحضرَ أيضاً طيف محفوظ والجواهري والسيّاب والعقّاد والكثير من الأدباء الذين وجدوا في المقاهي فُسحةً تفيضُ فيها قرائحهم.

عُدت إلى المقهى، وإلى الرجل المسافر مع كتابه، ثمّة كتاب آخر لا زال على المنضدة، وباقة ياسمين تعكسُ خيوط الشمس، وكوبُ شايٍ دافئ... وأنا غارقٌ في سحر المكان والمشهد.