شارع شيكاغو.. شهادات من صخب

بين إغلاق شارع شيكاغو وجريمة القتل التي وقعت فيه، مسافة بعيدة من الزمن، لكنها قريبة من المأساة.

  • شارع شيكاغو.. شهادات من صخب
    شارع شيكاغو.. شهادات من صخب

قبل بضع سنوات قررت أن أوثق كتابة لــ "شارع شيكاغو" في دمشق (اسمه الرسمي شارع بور سعيد). لكني تأخرت إلى حين عرض مسلسل "شارع شيكاغو" (تأليف وإخراج: محمد عبدالعزيز). حينها، وجدت نفسي وقد عزمت على الكتابة عنه.

توجهت نحو الشارع المذكور وحسبت كم من الوقت يحتاج إلى اجتيازه. مائة خطوة ليس أكثر. ذهبت إلى الأرشيف وبحثت عن تاريخه، لكني لم أجد شيئاً. تحدثت مع صاحب مقهى "الهافانا"، وصاحب المغسل والساعاتي وبائع السجائر عند المفرق، إلى أن تمكنت من التقاء رجال كبار في السن عاشوا تحولات هذا الشارع وخالطوا روّاده على وجه التحديد.

اليوم، يتمشهد الشارع في تخيلات تم تكوينها من كلام الدمشقيين. لا أحد يعرف الحقيقة كاملة، أما الذي يعرفها فلا يقدّمها، ما جعلني ألجأ إلى استخراج التصور العام من أشخاص مختلفين عاش كل منهم جيلاً، ابتداءً من الخمسينيات وانتهاءً بالثمانينيات. مثال ذلك، فوزي الذي كان يشتغل في مطعم "فلسطين" الواقع عند الفاصل البنائي بين شارعي الهافانا وشيكاغو، يقول: "كان هذا عام 1960، كان هناك الكثير من الأعلام على الشرفات، كان الجميع يتحدثون بالسياسة، باستثناء شارع شيكاغو، كان يتحدث بالصخب وبالسكر إلى حدّ القتل".

في ظهيرة أحد أيام تشرين الثاني/ نوفمبر 1960، ظهر ثلاثة من القوميين السوريين (عرفنا انتماءهم لاحقاً) وتوجهوا بسرعة هاربين نحو شارع شيكاغو. كان خلفهم رجال ببدلات يحملون بأيديهم مسدسات يصوبونها عليهم ويطلقون النار، تناثر القوميون أثناء الركض تحت طقطقة الحديد التي أحدثتها الطلقات، حتى سقط أحدهم جريحاً في آخر الشارع، أما الباقون فغابوا.

ظهرت امرأة لا أذكر من أي حانة ووقفت فوق رأسه مترنحة تسأله إذا ما كان يتألم، لكن اقترب منهما رجل يرتدي سترة سوداء بشكل لافت للنظر فوق بنطلون فاتح. أبعد المرأة بمفردة رذيلة فركضت نحو مشربها. بدأ الرجل بالصراخ في وجه الشاب، ثم صوب المسدس نحوه، فأطلق الأخير صرخة مروعة ووضع يديه على وجهه. صرخ رجل الأمن: "هلق رح تتمنى لو قوصتك" ثم أمسك به من ثيابه وجره خارج الشارع.

في نفس الشهر قُتل رجل بمشاجرة تحت تأثير السكر، قبل ذلك بفترة، قامت مجموعة أخرى من شباب الشارع باختطاف واغتصاب وقتل صبية تدعى "روزاريا"  تعمل في حانة "الأندلس".  

تتابعت المحادثات بشكل جيد. حصلتُ على معلومات أكثر مما أردت، لكن من الصعب إجراء استعراض لشارع لم يبق منه سوى أرضيته الحجرية. أنا الذي كنت محاطاً بتخيلات هي مزيج من الشائعات والشكوك والانفعالات التي لم تكن نبيلة دائماً. باختصار، الافتراءات التي كتبتها الصحافة بعد عرض المسلسل حول هذا الممر الضيق بعد أن كان كغيره من أزقة دمشق التاريخية، مخفياً لا يلاحظه أحد.

ضمن إطار آخر، اندمج الفلسطينيون مع شارع شيكاغو. يتابع فوزي: "في النصف الثاني من الستينيات، كان هناك عدد من الفدائيين الفلسطينيين يزورون الشارع في أوقات متلاحقة، أهمهم الفلسطيني "أحمد علام" من مخيم اليرموك. كان علّام فدائي ينفذ عمليات في فلسطين أثناءها، وعند عودته من أي عملية كان لديه مكان أول يتوجه نحوه قبل بيت أهله، إنه شارع شيكاغو، كان يثمل إلى آخر حد ثم يقوم بإطلاق الرصاص في الهواء. كان الجميع يخافونه هو ورفاقه، لم يكن لأحد أن يجرؤ على النظر نحو أي فرد من الفدائيين آنذاك، بالرغم من أن جميع من كانوا في الشارع "ذئاباً". كما أتذكر أني كنت قريباً أراقب أحد الفلسطينيين وهو يضرب شخصاً أمام مطعم أبو هايل- حمّيد (يقع في آخر الشارع ويقدم مأكولات شعبية). كانت تلك المرة الوحيدة التي تم فيها إلقاء قنبلة، رماها فلسطيني يدعى "فارس" وهو اسم حركي يحمله، أما هو فكان ضابطاً في (حركة) فتح".

بدأت السبعينيات تأخذ شكلها من ساحة يوسف العظمة في سياق مُعد من قبل وزارة الأوقاف بخصوص محلات اللهو المحيطة نزولاً باتجاه جسر فكتوريا، كان المشروع يستهدف في أسوأ سيناريو إغلاق شارع شيكاغو.

"من لا يمر عبر شارع شيكاغو لا تُقبل سكرته"، يقول بركات وهو زبون حانة "الشباب الدائم" منذ الستينيات وحتى عام اجتياح بيروت. يتابع: "مع بداية 1970 بدأ المتسولون يترددون على هذا الشارع لسبب أجهله، صار مطرحاً لجراثيم دمشق "الأولاد"، يدخله اللصوص والقوادين الصغار، بدأت تندلع المشاجرات يومياً نتيجة السكر الزائد ما استدعى دخول الشرطة بشكل مكثف. أصبح هذا الممر من أخطر الأماكن في المدينة، إلى حدّ أن الحكومة كانت ستغلقه سنة 1986 ببوابة من الحديد المشغول، بسبب جريمة القتل المروعة التي حدثت ولكن تم إقرار إحالة محلاته وإلغاء المشارب والحانات". 

بين إغلاق شارع شيكاغو وجريمة القتل التي وقعت فيه، مسافة بعيدة من الزمن، لكنها قريبة من المأساة. اليوم، أعاد عمل "محمد عبد العزيز" الصخب إليه، مزدحماً بالدكاكين الصغيرة والمحلات التي قامت مطرح المشارب. كل ذلك يتلاحق في الحفاظ على سرابه الماضي. وحسب اعتقادي، سيكون مسلسل "شارع شيكاغو" هو الدافع الذي سيستميل الدمشقيين إلى الرجوع إليه.