هاربٌ من "موريا"
وأنا سوري، كنتُ يوماً أفتخر بتعدّد الجنسيات على أرضي، واليوم لا أرض تستقبلني.
أنا الشاب الدمشقي الذي تهَّجر من منزله مرتين، قبل وبعد الحرب. أنا الضائِع في الأمكنة والوقت، أبحث عن نفسي وعن مُستقرّ لي. لا أريد سوى غرفة أغلق بابها ونافذتها لأتعافى فيها من جروحٍ داخليةٍ، تنتشر كوَرَمٍ خبيثٍ يأكل أحلامي وعُمري الذي ضاع.
أشعر بأنني فراشة قذيفة هاون، وعليّ أن أكون أكثر توازُناً حتى أمنع التصاق عقلي بقلبي. أريد أن أصرخ وأخرج هذا الوَرَم من كياني. يصرّ خوفي على عدم مواجهتي، وقد أنفجر يوماً وفي داخلي هذه الحبّة التي لم أستطع تثبيتها، وأموت على أرض لن تودّعني لأني شظيّة حرب!
أتوسَّد منحوتة سوداء دائريّة وملساء ناصِعة. جسدي على عشب شديد الإخضرار تفوح منه رائحة شمس دافِئة وندى متوسّطي. قُبالتي جبال لم أقرأ عنها ولكني بتّ أعرفها ككفيّ يديّ. كلما رأيتها تزداد علّواً وبُعداً مثل اليأس الذي يكبر في لحيتي ويطول معها. ينام الليل على جبيني ويزداد ثقله ساعة بعد أخرى. تؤرِقني ذكريات ضربات البوليس على قدماي وظهري. ضوء القمر يُزاحِم الغيمة والغفوة تُنازِع الخوفَ وأحلم بعينين مفتوحتين على السعادة المُنتظرَة. يزرع لي الحنين ابتسامة حزينة، يُباغِت الحلم الأضواء والرصاص ونُباح الكلاب، أهرب ولا أدري إلى أين.
تمزَّقت أربطة قدماي وكذلك أربطة حذائي الرياضي، تطّل أصابعي من الحذاء وتترقّبان الطريق مثلي. لم أعد أتحمَّل الإهانة على أيدي هؤلاء القُساة. فتحوا لنا البحر ثم أغلقوا الأبواب من دون سابق إنذار. فجأة أصبحنا ورقة خاسِرة بعد أن كنا وقوداً لنيرانهم.
مَن يُقبِّل الأحذية لن يُلامِس القمر يوماً. أعرف ذلك وقد فعلتها من أجل أن يفتحوا لي باب الرزق، لكن أحداً لم يرأف بحالي، وبدلاً من استقبالي كلاجئ كما يصفونني، فتحوا لي باب مُعتَقل، وصفوه بمُخيَّم وأطلقوا عليه إسم "موريا".
في موريا تنام الجرذان والحشرات والقِطَط وحتى الخوف والإنسانية، ونحن لا ننام، نحن الهاربون من حياةٍ نعرفها على الأقل واختبرناها، مُقبِلون يومياً على انتظار المجهول، سُجناء ينتظرون عفواً ولكنه مشروط بالأقدمية وحُسن السلوك ودفتر عائلي عليه أسماء أطفال خاطَرَ أهلهم بحياتهم في البحر والبر بحثاً عن المُستقبل، الذي بات بعيداً والحاضر بات مُعتقلاً في "موريا".
هربتُ وحيداً لأني لم أعد أتنفّس. اختنقت من رائحة القاذورات والفضلات ومن أمثالي ومن نفسي. ففي ذلك المكان لا مكان لإنسان!
للإنسان مُتّسع في الأرض، لكنهم حاصرونا هناك وتركونا لنزداد شقاء. طوابير بالمئات من أمثالي من أجل قضاء حاجة أو الاستحمام أو قطعة خبز، وفي أية لحظة يُصاب أحدنا برصاصةٍ أو بحروقٍ أو يقع مغميّاً عليه. نهاياتٌ دراميةٌ لا يهتمّ لها القادة الذين تحدَّثوا بإسمنا!
هربتُ لأن "موريا" هي الجحيم لأناسٍ ربما يُعاقبهم الرب بسبب تخلّيهم عن كل شيء في لحظةِ يأسٍ وركبوا الموج بقاربٍ مطاطي. أفسّر الأمر على هذا النحو لأسكت هذا الوحش الساكِن في رأسي، والذي يُخيفني بأسئلته وأصواته المُتواتِرة.
ربما كان عليّ أن أكون أكثر صلابة، لا أدري، كل شيء يتهاوى رويداً أمام ناظريّ. أصبحت لديّ مُتلازِمة، كما أفضّل تسميتها، كلما شاهدتُ عنصر أمن يوناني أو تركي أتذكَّر الشرطي "أبو نوفل"، الذي صرخ في وجه أمّي لأنها كانت تحاول وقف سيارة أجرة في مُنتصف الطريق بعد خروجنا من المشفى.
يومها أصبتُ بالجنون ونسيتُ جرحي الذي لم يلتئم.. شتمته بصوتٍ عالٍ ثم ركضتُ نحوه محاولاً ضربه، لولا تدخّل المارَّة وزميله. كان سيعتقلني لولا دموع أمّي ودعائها له، كانت تُبالِغ دائماً في انفعالاتها، أصرَّت أن أقبِّل رأسه، لم يكن لي من خيار، اقتربت منه ولكنه أشاح بوجهه وذهب من دون أن يقول كلمة!
البوليس هنا لا يشفع لأحد. لا لعجوزٍ ولا لرضيع. أتصبَّب عرقاً وما زلتُ أركض، أشعر أنني يوسين بولت. المُقارَنة جميلة لكنها غير واقعية، هو ركض من أجل المال والمتعة، وكذلك أنا، وحده المضمار يجعلنا مختلفين.
اختفت الأصوات، لكن يجب أن أواصل السير ولا أدري إلى أين، نهارٌ جديدٌ بدأ يبزغ وأنا أمشي وأمشي!
لن أسمح لهم بسجني في "موريا" مُجدَّداً. العودة إلى سوريا تبدو فكرة مجنونة لكنها أقلّ جنوناً من هذا المجهول. لا سبيل لي سوى رومانيا، لكن السبيل قُطِع. كنت مُستعدّاً للمُغامرة إلى هناك ومن ثم إلى ألمانيا، لو لم يسرق ذلك المُهرِّب التركي العام الماضي لكنت اليوم أحاول أن أتعافى من صدمة الهجرة غير الشرعية. تركني في إسطنبول وهرب. كانت ليلة لا تُنسى. تجمَّع حولي ثلاثة رجال شرطة وانهالوا عليّ ضرباً ولم أعرف السبب حتى اليوم، ثم اقتادوني إلى السجن، وبعد أيام وضعوني في مُخيَّم قريب من وطني. أغلقوا الحدود في وجهي وفتحوا لي باب البحر بعد ثلاثة أشهر!
اشتقتُ لرائحة دمشق في المساء. دمشق التي كنتُ أملأ رئتيّ بها قبل العودة إلى بيتي المُطلّ على قاسيون. تبدو لي تلك العاصمة اليوم أكبر من تركيا واليونان. هناك كنت أتنفَّس حتى مع القذائف ورائحة الدم والنار والهرولة لوقف باص في العباسيين.
علاقة الإنسان مع وطنه مثل علاقة الحبل الشوكي بالجسد، سيُصيبك العُطب إذا تركته. ربما تُفتَح أمامك الكثير من فُرَصِ النجاح، لكن البؤس سيظلّ يرافقك إلى أن تموت. بؤس عاطفي يجعلك تشعر بأن انحناءة مُزمِنة أصابتك ولا يستطيع أيّ طبيب مُداواتها.
أنا فادي المصري كنت أقطن في منطقة الهامة بريف دمشق. كنت قبلها أعيش في شارع الأمين في دمشق. عملت مُدقّقاً لغوياً في صحيفة خاصة وراتبي كان جيّداً نوعاً ما مُقارَنة مع رواتِب القطاع العام في ذلك الوقت. أُغلِقَت الجريدة وسافر صاحبها إلى مصر لأنه قرَّر فجأة أن يصبح مُعارِضاً بعد أن مسح لسنواتٍ أحذية رجال الأعمال ولمَّع صفحاتهم على جريدته، ومَن يُقبّل الأحذية لن يُلامِس القمر يوماً!
قال لي صديق إنه يعيش على صَدَقة رجل أعمال فاسِد هرب هو أيضاً إلى الإمارات. كان أيضاً يُقبّل حذاء مسؤول سياسي رفيع وفاسِد هرب أيضاً، لكن إلى فرنسا، وثلاثتهم لن يُلامسوا القمر. يعيشون كجرذانٍ في أقبية السياسة ويسرقون صناديق الدعم!
أحنّ إلى بيتنا رغم تواضعه الشديد وأحلم بالبيت الذي كنت أدفع أقساطه شهرياً، والذي بعتُ دفتر ملكيّته لكي أسافر إلى تركيا. هذا البلد الذي سرق بلدي وساقني مهرّبوه إلى "موريا" بدلاً من ألمانيا!
أنا أركضُ وليس لي سوى خيارين، إما الموت غرقاً أو قتلاً بالرصاص. سيقولون في نشرات الأخبار إن الشرطة اليونانية قتلت مُهاجِراً حاول الاعتداء على شرطي!
وأنا سوري، كنتُ يوماً أفتخر بتعدّد الجنسيات على أرضي، واليوم لا أرض تستقبلني، لأنهم ما عادوا ربما بحاجةٍ إلى عمالٍ ولا إلى مواليد جُدُد، ومصالحهم في تهجيرنا انتهت.