ألم مبارك
سأخبرك بسرّ يا صديقي: إن لم تكن تتألم فأنت في عداد الأموات.
-
ألم مبارك
لا زلت منذ صغري، حين كان طيني خالياً من أيّ شوك، أتذكر جيّداً ذاك الفتى الصّغير بيديه المتورّمتين وعينيه المنتفختين وجلده المهترئ وثيابه المتّسخة.
أذكر وجهه جيّداً، والطّريقة التّي كان يجلس فيها أمام الدّكان، والوحدة التّي كانت تنهشه في تلك المنطقة المكتظّة بالسّكّان. كان يمدّ يده إلى المارّين، ويحني رأسه، فعرفت سرّاً أنّه يطلب من مال الله، لا من مال النّاس. تقدّمت نحوه بخطى متأنّية، وضعت نقودي الخجولة في راحته بيد مرتجفة وعدت أدراجي.
ظللت أراقبه من السّيارة حين كان أبي يتفقّد أحواله. لم أتكلّم كثيراً في ذلك اليوم، بل ابتلعت كلّ أسئلتي حين استبد بي الحزن.
منذ ذلك اليوم وحتّى اللحظة وأنا أتألّم وأشعر بأنّ قلبي يتّسع. إلّا أنّني ومنذ سمعت بأنّ النّضج ملازم للألم هان عليّ كلّ هذا. لم أعد أشتكي من الألم بل صرت أباركه.
قلبي الآن يتّسع لكلّ طفل بلا مأوى أو ملجأ. يتّسع لأجيال مغبرة وأخرى قادمة، كما يتّسع للأسود والأبيض، للأحرف الأولى ولأناشيد الأطفال.
إنّه يتّسع وينضج على نار المحبة، فيناغي كلّ طفل ويهدهد الأحلام لكلّ متعب. يطعم الجياع بعض خبز وجبن ويسقي العطاشى دموعاً باردة.
قلبي الآن ينثر الزهور على قبور المنسيين، يبكي مع الحزانى، ويشاطر كل مريض آلامه وأنّاته. ها هو يجول مع كل منفيّ فيتجرّع آلام الغربة ويتكبّد وخز الأشواك.
قلبي قمح العصافير المشرّدة، ضحكة الأيتام، مرتع الأطفال، شمعة الشّباب ومأوى العجائز.
الآن وفي هذه اللحظة، إنّني أتألّم. ولكنّني لم أعد أشتكي منه بل صرت أمجّده.
قلبي الآن، لا ليس الآن، فلست ممن يؤمنون بالزّمن. قلبي هكذا في كل حين. ذاك القلب بات يتسع لكل شيء ويتركني أتكوّر في الزّوايا.
وها أنا ذا أتفقّد قلبي جيّداً قبل أن أنام، أتفقّد الألم، ذاك الجميل. لكي أنده ملء قلبي: إلهي أنا أتألّم، إذاً أنا إنسان! أتفقّده جيّداً، لأنّني لا أريده أن ينام، كما تنام الفطرة المذهّبة، جوهر الطّين وتخبو مع الأيّام حين نكبر.
لست أدري كم استغرق الأمر منهم حتى قالوا: "أنا أفكر، إذاً أنا موجود" لكنّ الأمر استغرقني عشرين شمعة لأقول: "أنا أتألّم، إذاً أنا إنسان".
أنا أتألّم، قلبي يتّسع، ترى أيصير قلبي يوماً بحجم مجرة؟ سأخبرك بسرّ يا صديقي: إن لم تكن تتألم فأنت في عداد الأموات. إقرص قلبك. ضع جمرة المحبّة على رماده واتركه يلتهب، لتصير حيّاً!