التربية والمجتمع
إذا كان النقل الثقافي ضرورة اجتماعية، فإن التربية هي وسيلة هذا النقل التي يتحقَّق بها بقاء المجتمعات واستمرارها وتقدّمها.
عندما يولَد الطفل يدخل الحياة وهو أعزل في مجتمعٍ له عاداته وتقاليده وأنماطه السلوكية وطُرُق تفكيره ومشاعره وأحاسيسه. يدخل هذا الوليد المجتمع ككائنٍ بيولوجي بحت، عبارة عن جسمٍ ينبض بالحياة قادر على استقبال المؤثّرات الخارجية بما يمتلكه من الحواس المختلفة وأهمّها السمع والبصر والإحساس.
وتختلف قُدرة الوليد على الحياة من حيث الدرجة والنوع عن قُدرة غيره من الأفراد في التجمّعات الحيوانية تحت البشرية. ومن هنا فإن مرحلة الطفولة عند الإنسان هي أطول مراحل الطفولة عند الكائنات الحيّة جميعها، حيث إن الحيوانات تمتلك من القُدرة الوراثية ما يمكّنها من التعامُل والتفاعُل في ما بينها وبين بيئاتها مباشرة بعد فترة قصيرة من الولادة، وعلى العكس من ذلك فإن الطفل لو تُرِك من دون الرعاية اللازمة من الآخرين لمات بعد زمن ليس بالطويل. فهو يولَد بحاجةٍ إلى عنايةٍ جسميةٍ ونفسيةٍ واجتماعيةٍ من جانب الكبار المُحيطين به طوال فترة طفولته وما بعدها.
وجدير بالذِكر أن المولود ينتقل من الفردية البيولوجية البحتة إلى الشخصية الاجتماعية بالتدرّج عن طريق رعاية الكبار والتفاعُل المستمر مع أفراد بيئته بما وَهَبَ الله سبحانه وتعالى هذه الشخصية الإنسانية من مرونةٍ ومطاوَعةٍ تتشكَّل بتفاعُلها مع العناصر البيئية المُختلفة. إذ يولَد مزوَّداً بإمكانياتٍ لسلوكه تظهر وتنمو وتوظَّف بتفاعُلها المستمر بين الشخصية الإنسانية وبين العناصر المختلفة.
وعَجْز الوليد البشري وما تتمتَّع به شخصيّته من مرونةٍ ومطاوَعةٍ ليس شيئاً سلبياً، لكنه إمكانية إيجابية توظّفها التربية لكي تجعل من هذا العجز والمطاوَعة قوَّة، ولهذا كان العجز في مرحلة الطفولة هو أساس سيطرته وقوَّته وتفوّقه في ما بعد على التجمّعات الحيوانية الأخرى والبيئة بصفةٍ عامة.
والتربية السليمة هي التي تستفيد من هذه الإمكانيات إلى أقصى حد لها، لتجعل الطفل فرداً ومواطِناً يتمتَّع بما حباه الله سبحانه وتعالى من إمكاناتٍ وقُدرات.
ومما تقدّم ندرك أن التربية تلعب دوراً خطيراً في عملية التنشئة الاجتماعية. فهي التي تُعنى بتشكيل الوليد والانتقال به من كونه كائناً بيولوجياً بحتاً إلى مرحلةٍ يكتسب فيها الشخصية الاجتماعية التي يستطيع أن يُسهِم عن طريقها في بناء المجتمع، وأن تنتقل ثقافة هذا المجتمع من جيلٍ إلى جيل.
والتربية كتنشئة تتأثّر وتتشكّل في إطار مجموعة من العوامل ذات الصبغة الاجتماعية، أي ترتبط بتفاعُل وتعامُل الفرد مع غيره من الأفراد والجماعات ويمكن تصنيف هذه العوامِل إلى ثلاث مجموعات رئيسية:
- مجموعة العوامِل المُرتبطة بالمجتمع الكبير والثقافة التي ينشأ في إطارها الفرد، باعتبار أن المجتمع الكبير هو الذي يُحدِّد الإطار العام للسلوك والقِيَم المرغوبة. وفي عصر التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي نعيشه، عصر المعلومات وسرعة نقلها وتداولها عن طريق شبكات الإنترنت، أصبح المجتمع الكبير الذي نعيش فيه ليس مُقتصراً على البلد أو الدولة التي نحيا فيها، لكنه امتدّ ليشمل العالم الذي أصبح "قرية صغيرة" يتأثّر كل فرد فيها بثقافات وقِيَم بقيّة أجزاء أخرى من العالم. ومن هنا تظهر أهمية المؤسَّسات التربوية المدرسية واللامدرسية في مواجهة هذا الصراعات الثقافي والحفاظ على هويّة المجتمع.
- مجموعة العوامِل المُرتبطة بالمجتمعات الخاصة التي ينتمي إليها الفرد، مثل مجتمع الطبقة الاجتماعية. فالمجتمعات التي تعرف طبقات أرستقراطية تخضع لنوعٍ من التربية والتنشئة يختلف عن طبقات المجتمع الأخرى، وكل هذه الأنواع من المجتمعات الخاصة لها معاييرها وقِيَمها ونماذجها السلوكية التي تتحدَّد داخل الإطار العام الذي يُحدِّده المجتمع الكبير.
- مجموعة العوامِل التي ترتبط بالمنظّمات أو التنظيمات التي ينتمي إليها الفرد خلال سنوات عُمره، مثل المدرسة التي التحق بها ونوع المدرسة وطبيعتها والبرامج التي تقدِّمها. وكذلك النوادي ومراكز الشباب ومؤسّسات العمل بوجه عام، هذا بالإضافة إلى الجماعات التي يتفاعل معها أو يعيش في كَنَفِها الفرد مثل الأسرة والأصدقاء وغيرها.
وتهدف المجتمعات الإنسانية على مرّ الأزمنة والعصور إلى تحقيق بقائها واستمرارها وإلى المحافظة على قِيَمها وعاداتها وتقاليدها وأنظمتها، وبما أن الحياة الإنسانية تتجدَّد وتنمو وتزداد معدّلات تقدّمها عن طريق نقل التُراث الثقافي من الأجيال الماضية إلى الأجيال الحاضرة ومنها إلى الأجيال المستقبلية، ومن خلال نقل التُراث الثقافي بسعي كل جيل بالإضافة إلى تُراث مَن سبقوه أو يقوم بالحذف منه والتعديل فيه.
وإذا كان هذا النقل الثقافي ضرورة اجتماعية لبقاء المجتمعات واستمرارها، فإن التربية هي وسيلة هذا النقل التي يتحقَّق بها بقاء المجتمعات واستمرارها وتقدّمها.