ضجيج

شيءٌ ما سحبني بقوة خارج غرفتي وأدخلني في نفقٍ طويل.

  • ضجيج (William Holman Hunt)
    ضجيج (William Holman Hunt)

كان يوماً شاقاً كعادته، وليلة أخرى من ليالي الشتاء الطويلة والمُوحِشة اختفى فيها القمر، أغلقتُ ستار النافذة وشعرتُ برغبةٍ شديدة لأن أضع رأسي الذي باتَ وكأنه يزنُ ألف كيلو غرامٍ على الوسادة، أغمضتُ عينيّ المتشحتين بالسواد، لكني لم أستطع النوم بالسرعة التي كنتُ أتوقعها.

صارتْ أذناي وكأنها لاقطة كبيرة تلتقط جميع الأصوات من حولي، كل شيء له صوت مزعج، قطرات الماء في حوض المطبخ، القطط والكلاب في الشارع، حفيف الأشجار خلف النافذة. لكن الصوت الأكثر إزعاجاً كان صوت عقارب الساعة فوق المنضدة، لم أحتمل صوتها وهي تنتقل من ثانية إلى أخرى، تك تك تك... يا إلهي سأُصاب بالجنون!

انتفضتُ من سريري وأخرجتُ البطارية من تلك الساعة اللعينة لأتخلص من مطارقها التي تضرب جدار عقلي، عدتُ إلى السرير مُتأملة أن أغفو هذه المرة دون أن أركز على أي صوتٍ آخر يحرمني من راحتي الوحيدة خلال اليوم. فجأة سمعتُ صوت ضجيج بدأ يعلو شيئاً فشيئاً، وكأن غرباناً تحوم فوق رأسي تمدُ منقارها وتنهش به ليمتلئ بنعيقها المشؤوم.

كان ذلك صوت أفكاري المشوّشة التي حاولتُ تجاهلها طوال اليوم، لكنها وجدتْ الفرصة لتُداهمني الآن. تلاها صوت وقعَ أقدامٍ قادمة من بعيد، اقتربتْ خطواتها وازداد معها القلق حتى دوّتْ صرخة أيقظتْ الخوف بداخلي. إنها الذكريات وهي تصرخ بكل ما فيها من ألم الماضي مُطالبة بتحريرها من السجن الضيق والمُظلم الذي تمكثُ فيه، ليتني أستطيع التخلص منها؛ فلو كنتُ القاضي لما رحمتها وحكمتُ عليها بالنسيان!

أصابني الأرق من شدة التعب. بتُّ أتقلبْ في سريري الذي استحال سعيراً. بقيتُ أُحدث نفسي بما أرغب بفعله وكأني دخلتُ في حالة هذيان، عندما بدأ لديّ الشعور بالخدر. تخدرت حواسي وبدا كأن جسدي يستسلم للنوم أخيراً بعد تلك المقاومة التي أبداها رُغما عني، أو هكذا اعتقدتُ!

شيءٌ ما سحبني بقوة خارج غرفتي وأدخلني في نفقٍ طويل. بعدها وجدتُ نفسي أقفُ في شارعٍ مظلم لا يوجد فيه سوى عمود نور ضوءه خافت، وتمَلكني الخوف عندما رأيتُ ظلالَ أشباحٍ تتسابق من مسافة بعيدة. يا إلهي إنها كلاب عملاقة قادمة نحوي!

ها هي تُلاحقني، بدأتُ أركض بأقصى سرعتي حتى وصلتُ إلى نهاية الطريق الذي كان مغلقاً من كل جانب.

خنقتني غصة جعلتْ دموعي تنهمر ولم أقوَ على الصراخ؛ فاختبأتُ في ركنٍ مظلم خلف حاوية نفايات ووضعتُ يدي على فمي لأكتُم صوت أنفاسي، ولكني لم أنجح بذلك.

ما إن أوشكتْ الكلاب على الهجوم حتى وجدتُ بابا لبناية شاهقة الارتفاع، دخلتُها وبدأتُ أصعد السلالم مُهرولة والكلاب تنبح وتركض خلفي. وصلتُ إلى الطابق الأخير حيث سطح البناية المكشوف ولم أستطع الهروب بعد،
أصبحتُ قريبة من السماء، نظرتُ إليها وتمنيتُ لو أني أملكُ جناحين لأطير بهما وأنجو من الهلاك، ولكن لم يكُن لديّ أيّ وسيلةٍ تُخلصني من هذه الوحوش التي تحاولُ أكلي.

مشيتُ خطواتٍ بطيئة إلى الخلف بقدمين مُرتجفتين. اقتربتُ من حافة الهاوية وأنا أنظرُ إلى الكلاب الشرسة مُكشرة عن أنيابها تلهث بفمٍ مفتوح يسيل منه اللُعاب ثم تقفز باتجاهي؛ فسقطتُ أخيراً من أعلى البناية قبل أن تصل إليّ وتلتهمني. واصلتُ السقوط حتى سادَ الظلام من حولي لأستيقظ على شهقةٍ قوية وضربات قلبٍ تكادُ تهشمُ قفصَ صدري. حاولتُ الوقوف ومشيتُ مُتعثرة نحو مرآتي المُعلقة على الجدار، وأخذتُ أتأمل وجهي الشاحب وأقولُ لنفسي:
لا لم يكُن حلماً بل هو الواقع بعينه! لا زلتُ أجهل مصيري وأنا في هذا الظلام، هل سأسقط أرضاً؟ أم سيظهر لي جناحان يحملاني بعيداً لأهبط بسلام.