لعنة القوَّة
في غاب قديم متعرش بين جبلين، في عالم الحيوان، قعد أسد خائر القوى في مملكة أمجاده، يلعن القوّة، ويرجمُ الجوع.
-
لوحة من كتاب "كليلة ودمنة"
في عالمِ الحيوان، وتحديداً في المملكةِ الجنوبيَّةِ حيثُ البراري التي تأكلُها الأشجارُ حيناً وتفترسُها الصحراءُ حيناً آخر. يُحلِّقُ نسرٌ في الأعالي ويقولُ "لله الحمدُ، خلقني حُرّاً طليقاً، أطيرُ بعيداً عن هذه الأرض المليئة بالأدران والخطايا منذُ فجرها الأوَّل".
هُناكَ في تلك الغابات العتيقة، تنتصبُ أشجارُ الله العملاقة إلى أن تدنو من السماء، وتجول الحيوانات كعادتها حُرَّةً طليقة. وفي يومٍ قائظٍ، أخذ الأسد الجليل الذي علَّقت له الطَّبيعة قلادة القوَّة والمجد على رأسه يجوبُ بيدين خاويتين وبطنٍ خميصةٍ غائِرة وجسدٍ واهِن. إنَّه صائمٌ منذ فترةٍ، ولا يريدُ أن يذكرَ طَعْم الحشائش المُشبَّعة بالغُبار والتراب حتى لا ينكمش فمه.
مرَّ شبح الجوع أمامه، وحْمَلقَ في عينيه، فتأوَّهَ من آلامه وأخذ ينشدُ عمالقة الشبع.
ظلَّ الأسدُ يمشي وكأنَّهُ يقول:" أنا الشَّمسُ الطَّالعة بعد أن أكل الضّعفُ صغار الخلق ووضعاء النُّفوس، أنا الأعفر الأصحر، أخذت من التُّراب لوني وأحطتُ بالنيران وجهي، فأحرقت كلَّ خساسة وخضوع وأطفأت أيّة مذلَّةٍ وهوان. أنا الطَّالع من أُبَّهة الجلال، بعد أن خطَّ البُؤسُ كلامه على جباهِ النُّفوس الحقيرة".
أخذ سيّدُ السِّباعِ يدور بتعبٍ لا يسلبُ عَظَمَتهُ سغبان ضعيف، بعدما طوَّق الجوع عُنقه، حتى كادت تزهقُ أنفاسهُ. وبينما كان يتمايل ويتماوجُ، بانت عِظامُ صدره بارزة ناتِئة. جلسَ وقد فَقَدَ كلَّ رغبةٍ بالحراك، وأخذ يرقبُ الحياةَ التي رأى حينها قُرب رحيله عنها وفنائه.
وبعينين تقدحان ناراً على وشك أن تنطفئ رأى الأسد غزالةً يافِعةً تقفز بخفَّةٍ بين الحشائش والأشجار القصيرة. أخذ يرقب انعكاسَ أشعَّة الشمس الذهبيَّة على لحمها الطَّريّ فزحف نحوها كالأعمى بانسيابٍ وخفيةٍ واستنَّ عليها. عندما أحسَّت به الغزالة، قفزت فزعاً تحاولُ الهربَ من موتٍ محتوم. غُبار كثيف، تُرابٌ ثائِر، صرخاتُ موتٍ مُرْعِبٍ وهَلَع وأصواتُ تحطيم وقضقضة، ثُمَّ هدوء...انجلى الغُبار عن لحمٍ أحمر مزَّقته وكشطتهُ خناجر ضيغم. لقد غرس الأسدُ أنيابه في صيده الثمين بعد أن تلاشت قوى الغزالة وهمدت بين يديه، وقد لفظت أنفاسها على عُجالة. وأخذ يأكلُ بِنَهَمٍ حتى استفاه.
ثُمَّ وبعد أن امتلأ، جلس الأسدُ مُخضَّباً بالدماء مُلطَّخاً بإثم فعلته، وردَّد الصدى صوت زئير يُخالطهُ عويل. جلسَ ملكُ الغابة يبكي ويتمزَّق، انهارَ كجبلٍ، وقعد الأسد يبكي فريستَهُ بوحشيَّةٍ وبراءة. وهو يقول:" ويلٌ لي إذ قتلتُ إبنة جنسي، إذ قتلتُ روحاً يافِعةً كبُرعمٍ مُتورِّد. قتلتُ إبنة أحدهم، وحلمهم الذي يخطو على الأرض. ويلٌ لي إذ قتلتُ روحاً، وأطفأتُ ضوءاً في دُنيا اليراعات".
دفنَ رأسهُ بين كفَّيهِ وقد تحوَّل زئيرُهُ العالي إلى خريرٍ ضئيلٍ، واقتربَ من البحيرةِ الواحِلة وأخذ يشربُ بعد أن غصَّ الأسدُ بلقُمته. لكنَّ الماء لم يكن ليُجدي نفعاً، بعد أن علقَت روحٌ في حلقه!
اقتربَ من بقايا العِظام وبحيرة الدماء التي سُرعان ما امتصَّتها الرمال. ضمَّ فريستهُ إلى صدره وصرخ ما سمعَهُ العالمُ أجمع وكُتِب على لوحِ الأزل: "يا ربَّ العالم، لقد كنتُ جائعاً ...".
دفنَ ما تبَّقى من الجيفة، وقال:"سُحقاً لشهوةٍ زالت بزوال سببها وأورثتني الندم عُمراً، وأين أذهبُ بوجهٍ اكتسى عَظَمَةً ثُمَّ ارتدى الحقارة". وأخذ ينشدُ :" لعَمري إنَّ في القُوَّةِ ضعفاً، فافخَر بِضعفكَ يا ضعيف ... وقِفْ واشمخ أمام كل نفسٍ، فإنَّكَ إن سالَ اللُّعاب عفيفُ ... وإنَّكَ ليس لديكَ نابٌ تُكشِّر عنه، وإنَّكَ يا عزيزي لا يُغريك زَيْفُ".
ثمَّ قال وصوتهُ يتَحَشْرَج "إلهي، كنتُ جائعاً، والجوعُ قاسٍ، ولو لم أدُقَّ عُنقها، لدقَّ الجوع عُنقي. ولو لم أفترسها لافترسني السُعار. ولم أقدر على كَبْحِ رغبتي. ما أقبحني يا ربَّ الكون، ثمَّ ماذا لو لم يكن نصيبي في هذا العالم القوّة؟ فما أقواني في عيون غيري، وما أضعفني في عين نفسي. وما أقبحني إذ أستغلُّ قوَّتي وأستفردُ بضعفها! ما أقبحني إذ أستخدم أنيابي وأسناني ومخالبي لأقوى أنا بينما تخمدُ روحٌ إلى الأبد ولا تقوى على الحِراك. لقد أنهكتني قوَّتي وهذا الجوع نارٌ لا يُطفئُها سوى اللَّحم الذي تفوحُ منه رائحة الدماء، وهديرُ الجوعِ في أحشائي لا يخرسُ إلا إذا صمتت روحٌ عن الذَّبذبة في الأثير.
في غابٍ قديمٍ مُتعرِّشٍ بين جبلين، في عالم الحيوان، هُناكَ في تلك الغابات العتيقة، حيثُ تنتصبُ أشجارُ الله العملاقة إلى أن تدنو من السماء، وتجول الحيوانات كعادتها حُرَّةً طليقة. قعد أسدٌ خائِر القِوى في مملكة أمجاده، يلعنُ القوَّة، ويرجمُ الجوع.