بلا عنوان

في ظلمات الليل سمعت نواح البوم من فوق الشجر تُكسِرُ الصمت على الجبل، وأخاف صديقي أصوات الذئاب من الهضاب، فارتمى في داخلي ثم مضى كالريح يصفرُ رعباً حتى أدركنا الفجر.

  • بلا عنوان
    بلا عنوان

... ومضى يسألني ويسألني طالباً الجواب، أين هم؟ لماذا؟ وكيف؟ تحيّرت كيف أُصيغ له جواباً لا يقفل على مخيّلته باباً ولا أعرف سوى مصارحته.

ومضينا سوياً نعبر ضفاف نهر مجاور لقريتي علمات الساكنة على كتف الجبل، عند الجسر القديم، ذاك الذي مرّت عليه قوافل العثمانيين والفرنسيين وجيشنا اللبناني، عبرنا، بصمتٍ يختزن كثيراً من الحنين إلى سماع حوافر الخيول وصهيلها وصيحات فرسانها.

ومضينا نتسلّق حصى النهر الأملس، وحين نخطئ موضع أقدامنا ننزلق إلى وحوله المتحرّكة. أما هو، فما زال على حاله، يسأل عن الصغيرة والكبيرة، عن الحيوانات الزاحفة والطائرة، عن الأخضر واليابس، يسأل عن المنبع أو المصبّ، عن التاريخ الماضي أو الحاضر المقبل، يكثر ويحدّق ويسترسل بالسؤال. تارة يتقدّمني بالمسير وأخرى يخلفني به، ترى هل أنَّه يقصد القصد بمشيه أم عبثاً تتعثر خطاه؟

حطّ براحلتنا طائرٌ يفرد جناحيه فوقنا، يرقب مسيرنا بقلق، ويهوي على الغصن فيهتزّ له كأرجوحةٍ. فسألني عن اسمه وفصيله، عن زرقة جناحيه، ولماذا ليس أخضر الجناح كالبراري من حوله؟ لِمَ لا يُحاكي جمال طيف الطبيعة؟ أجبته: هو رفيق وصاحب ماجد في السفر، يرتحل كحالنا من زمان لغيره فيرى من الناس تغيّر أحوالهم.

ومضينا بلا عنوان، حتى دنا منّا الجبل حيث جلست مشرقةً خلفه ترمقه بنظرات وومضات برّاقة تضفي وهجاً على سحره وتنثر فوقه سحاب عبق زهر الزعتر البري وورق الغار الأخضر. هناك، تروي لنا الشمس حكايات أطيافهم وهم يعبرون الجبل إلى السهل من ورائه.

على الطريق مررنا بالبيدر فبادرته مجاوباً بلا استرسال عن حصاد القمح، عن الفلاّح وكفّه الأحمر، عن وجنتيه السمراوين، عن لبس الشروال وزناره المُزيّن بالمنجل، عن الكوفية على الرأس، عن عيدان الثقاب وعن لفافة السجائر اليدوية، عن ماضٍ عميقٍ فاضت روحه فوق البيدر، فرمقني بعقدة من حاجبه الأيمن تركتني هائماً إلى حنين الدروب الخالية.

سألني عن الوقت فأشرت إلى ظلّي على الأرض واسترسلت في وصف القمر والنجم في الليل. أدركنا الليل وتتّبعنا النجوم والسير على ضوء القمر.

في ظلمات الليل سمعت نواح البوم من فوق الشجر تُكسِرُ الصمت على الجبل، وأخاف صديقي أصوات الذئاب من الهضاب، فارتمى في داخلي ثم مضى كالريح يصفرُ رعباً حتى أدركنا الفجر.

مع انبعاث أول شعاع أدركه الأمان فعاد ورافقني إلى مقصدنا عند البئر الخاوية في طيّات الوادي. هناك سكت عن الكلام حتى الصباح وما عدا صدى الحجر من قاع البئر ما ضجّ ضجيج أبداً. تعجّبت من صمته، فلم أعتد عليه طويلاً. صبرت حتى أيقنت أنه ارتحل حيث أراد.

فعدت بنفسي من حيث أتيت مستأنساً بصمتي، فربما كان له مقصد في أمري. انَّه خيالي.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]