هو حبيبي الأول ... الذي حوّل قلبي إلى فؤاد

الحبيب الأول كان عازف بيانو كنت أرتقبه وأراقب أوقات عروضه على شاشة التلفاز! نعم، صدّقوني! أذكر بعضاً من ملامح وجهه كالحلم!

  • هو حبيبي الأول ... الذي حوّل قلبي إلى فؤاد
    الحبيب الأول كان عازف بيانو

 حين يرتقي "القلب" إلى "فؤاد"، يرتقي معه كل ما يجاوره. يسيطر الرقّي على الفكر، التصرّف، القول، حتى على الحواس الخمس وقد يُكْسِبُك أو يُهديك حاسةً سادسة، لا تشبه  أخواتِها. حاسة تكبرهن سنّاً، نضجاً، عمقاً... وغموضاً.

حين يرتقي "القلب" إلى "فؤاد" تكون قد وقعت في ما يُسمّى "حب"... وما زلت للآن لا أعلم لمَ يرصفون فعل الوقوع أمام كلمة "حب"، لا أعلم لِمَ اللجوء إلى الحب يكون هبوطاً لا صعوداً، يكون سقوطاً لا ارتقاءً. ومهما كانت اللفظة الصحيحة، فإن مسار الوصول إلى الحب - وإن كان هبوطاً- فهو هبوطٌ من السماء إلى أرض النعيم وإن كان صعوداً فهو صعودٌ من أرض الواقع إلى أعالي السماء حيث تستطيع أن تشعر بجناحَيْكَ يُحلّقان من دون شرطٍ أو قيد، والمعادلة في الحالَيْن تشير إلى أنَّ السبيل إلى الحبِّ رائعٌ رائع!

يبدأ القلب بالخفقان في أول لحظة حياةٍ لك، خفقاته مُتشابهة، تتحقَّقُ فقط لتعيشَ، وتكون تلك العملية بيولوجية بحتة، وهذا تحديداً ما يُنْجِحُك في أن تبقى حيّاً. لكن تلك الخفقات قد تتغيّر عن مسارها البيولوجي الطبيعي، لتشعرَ بأن دمك قد تجمَّدَ وأن نبضات فؤادك باتت أقوى بل أعنف، وبتَّ تشعر بأنها توجعك وجعاً حلو المذاق.

قد عشْتُ كل تلك المشاعر الهائلة ولكن بصورةٍ مُصغّرة، طفولية، أصغر بكثير مما قد تعيشها فتاة في العشرين، وفي الوقت عينه بصورةٍ أغرب بأضعاف ما قد تعيشه تلك الفتاة العشرينية نفسها.

كلٌّ منا قد شهد حباً طفولياً بلا شك، يختبر من خلاله عواصف الحب للمرة الأولى، ويدخل عالمه حافي القدمَيْن، ويترك الخوف خارجاً ويدخله بلا شروط، بلا توقّعات ولا تكهّنات.

وأنا - كأية فتاةٍ غريبة الأطوار - زارني الحبُّ الطفولي أو بالأحرى طرقتُ بابه حين كنت قد أكملت سنواتي التسع. ليس الغريب أن أتقن العوم في محيط الحب في هذه السن، لكن الغريب حقًّا كان في مَن أحببت، في مَن استولى على قلبٍ حوَّله إلى فؤادٍ تغيَّر من خلاله إحساس الخفقان وأضحت النبضات تتفوّه بكلماتٍ عجزْتُ عن تفسير لغتها الرمزية.

الحبيب الأول كان عازف بيانو كنت أرتقبه وأراقب أوقات عروضه على شاشة التلفاز! نعم، صدّقوني! أذكر بعضاً من ملامح وجهه كالحلم! وأنا، عاشقة تلك الآلة الموسيقية، والتي كانت تُطرَب لها أذني كلما سمعْتُ أنغاماً معزوفةً عليها، عشقْت عازفها البعيد عني مسافات يستحيل جعلها أقرب. عشقْت انفعالات عينَيْه وما يحيط بالعينين كلما عزف ما أكَّدَ بذلك قوّة موهبته. عشقْت أصابعه التي كانت ترقص بخفّةٍ ورشاقةٍ ساحرةٍ على بياضٍ وسواد، إلى أن وصلْت بذلك الحب الأحادي الجانب إلى أن أراه في أحلامي الليلية وكذلك في صحوة اليقظة.

أعترف أنه قد أخذني بعزفه هذا إلى أماكن تَكْبَرُني وتُكْبِرُني سناً، وهنا تحديداً أيقنت حق اليقين أن نظرتي له تعدَّت حدود الإعجاب ليسكن ذاكرتي إلى الآن حتى ولو أصبحَت تلك الذكرى مجرّد حبرٍ على ورق.

جنونٌ هذا! لكنه شعورٌ تملَّكني حقّاً، وبتُّ ألاحق عروضه التي كانت عقبها تزيد حفرة إعجابي به بل لهفتي لرؤيته أمتاراً! لا أعلم أيّ نوعٍ من الحب كان، ولا أعلم أي نوع من الذاكرة أمتلك الآن! ولكن حينها اقترحْت على والديَّ ضرورة خضوعي إلى دورات لتعلّم العزف على البيانو، ومع إصراري على ذلك ليل نهار، إيماناً مني بقدرة الأيام على جمعي بهذا العازِف - الحبيب الخيالي - على مقعد بيانو واحد، لتلامس أطراف أصابعي تلك التي يمتلك، لتلتقيَ حاستي السادسة بسادس حواسه. وكانت ردّات والديَّ المُتكرّرة الواعدة وعوداً خدّاعة: "في الصيف المقبل يا حبيبتي حالما تنتهي السنة الدراسية، سنسمح لك بممارسة ما ترغبين به".

وتتوالى فصول الصيف، الفصل تلو الآخر، وما زال في خاطري عازف البيانو الذي محَتْه السنون من فؤادي وأبقَتْه ذكرى تثير إعجابي بنفسي الغريبة وتُضحِكُني على حب الطفولة الذي كانت شاشة التلفاز الوسيط الوحيد بين طرفيّ العلاقة الوهمية تلك.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]