سنديانة من بلدي

أشعر أني أمتلك الدنيا حين أرى طفلاً سعيداً بلباس جديد منْ خياطتي

  • سنديانة من بلدي
    سنديانة من بلدي

شعور مذهل من السكينة والدفء يغمر الروح حين الدخول لبيتها. فقدْ استقبلتنا بوجهها المُنير وبسمتها الرقيقة، التي توحي بأن شيئاً من الطفولة مازال يسكن قلبها، رغم أنها في بداية العقد السادس من العُمر.

وكمْ هي جميلة تلك الخصلات من شعرها الأبيض التي تظهر كالياسمين المُدلّى منْ أطراف منديلها الأبيض، وذاك الطيب في وجهها يغلب على تجاعيد الزمن ويوحي بالخير الذي يعمّ على كل مَنْ حولها.

اكتسبتْ خبرتها في الحياة من رحلة شقائها التي أعطتها الحكمة فباتتْ تدرك أهمية التفاصيل الصغيرة في الكثير منْ أمور الدنيا والناس، فأصبحتْ تُتقن الحب والصبر والتضحية، كما تُتقن إخفاء حزنها خلف تلك  البسمة التي لا تفارق مُحيّاها، بل وتعرف تماماً كيف تنسج أملاً يتناسب مع ظرفها ولو انتشلته منْ عُمق الألم وتعلم جيّداً كيف تعطّر جرح غيرها وتشفيه، وكيف تصنع من اللاشيء أسمى الأشياء.

إنها أمّ وسام، السيّدة القديرة المحبوبة منْ أهل قريتها، صغيرهم وكبيرهم يحترمها، فهي خيّاطتهم البارعة والمفضّلة منذ سنين طويلة.

والكل أحب شرطها للتفصيل وعمل به، فقدْ كانتْ تطلب ممَن يريد خياطة ثوب ما عندها، أن يزيد منْ طول القماش قليلاً بحسب قدرته، لتأخذ الزيادة منه بدلاً منْ أجرها، لتعود وتصنع من القماش الزائد أثوابا لأطفال القرية المحتاجين، وقدْ اكتسبتْ هذه الميزة عنْ أمّها التي علّمتها المحبة والعطاء وفن الخياطة.

كانتْ تقول:

- أشعر أني أمتلك الدنيا حين أرى طفلاً سعيداً بلباس جديد منْ خياطتي.

هذا الصباح رافقت أمّي لزيارتها فقدْ أثار فضولي التعرّف على هذه السيّدة النبيلة منْ كثرة ما سمعت عنها.

في مدخل بيتها التقينا ...

- أمّي:

- هذه ابنتي وردة يا أمّ وسام.

- ما شاء الله وهي وردة حقاً، أهلاً وسهلاً بك وبوردتك البيت بيتكم.

استقبلتنا ودخلتْ مطبخها تُعدِّ القهوة، وما كادتْ تغلي دلّة قهوتها حتى رأتْ أمّ حسن منْ شباك المطبخ وهي تنشر الغسيل على شرفة بيتها.

فنادتها:

- يا جارة القهوة جاهزة

أمّ حسن: صبّيها يا أمّ وسام، بقي بنطال لحسن وفستان نسرين أنشرهما وأذهب.

وطبعاً أمّ وسام تفخر بدلّة قهوتها الكبيرة التي تقول عنها: فيها البَرَكة، فهي تناسب جلسة اجتماع الجارات معظم الصباحات عندها قبل البدء بأعمالهن. ولمْ يكنْ اجتماعهن بمحض تبادل الأخبار ورشف القهوة فحسبْ، بل كان لغاية معيّنة لخير أهل القرية ، كالتي قصدناها اليوم لأجلها.

فأمّ وسام الأصيلة والشامِخة بأخلاقها أصبحتْ بيت سرّ ومحلّ ثقة لأهل قريتها، فمنْ يريد مساعدة مُحتاج ما، بعد سوء الحال الذي أضنى الناس بظروف الحرب الطويلة واللعينة، أو كذلك الأمر منْ كان يريد إيصال أي نوع من المساعدة لعائلات فقيرة فكانتْ سرّ الأيادي البيضاء لطريق الخير.

فهي الوسيط النبيل من دون أيّ مقابل، تقدِّم ما يقدِّرها الله على فعله وتقول دائماً ذات العبارة:

- ما قدّمته يميني لنْ تدري به شمالي حتى توافيني المنيّة. بصدقها وروحها الطيّبة اكتسبتْ محبّة الجميع، فهي مُخلصة بتعاملها وعملها حد أن نستغرب أنه مازال في الدنيا بشر بهذا النقاء.

اجتمعن الجارات الست، وبدأن السلامات وتبادل الحديث، ورائحة القهوة الشهيّة تعبق بالمكان، لوهلةٍ شعرت كأن للقهوة روح تجمع الناس على الخير.

وكلما تحدّثتْ أمّ وسام سكتن وأصغين لها.

ولفت انتباهي أثناء حديثها عبارة قالتها حين اختصرتْ حديثها بكلماتٍ قليلةٍ ومُعبّرة، لا تؤاخذوني يا جاراتي فكلماتي على قدر معرفتي.

استغربت هذه العبارة لأني كنت أراقب ملقاها الجميل للجميع وأناقة حديثها ولطفها وبسمتها، ومنْ جهةٍ أخرى أنظر لأناقة ونظافة وبساطة بيتها الصغير المتواضع.

وتفاجأت حين أكملتْ قائلة:

- أنا لا أعرف القراءة والكتابة، فلمْ تكنْ ظروف حياتنا تساعد على التعلّم، لكنْ عرفت كيف أربّي أبنائي على الوفاء والمحبّة والإخلاص للأرض والناس والوطن. وكنت أهتمّ وأتابع دراستهم ولمْ يعلموا أني لا أعلم القراءة إلا بعد أن كبروا.

فسألتها:

- إذاً كيف كنت تتابعين درسهم يا خالة؟

- كنت أجلس معهم وأطلب منهم حفظ الدرس وأسمّع لهم، فأفتح الكتاب من دون عِلم لي بما فيه لكن كنت أراقب وجوههم أثناء التسميع، فمن رأيته تلبّك أو توقّف أثناء التسميع قليلاً ،أطلب منه إعادة الحفظ مجدّداً وأحياناً كنت أعاقبهم بكتابة الدرس عدّة مرات حتى أتأكّد منْ إتقان حفظهم.

فسألتها:

- ما عمل أولادك الآن يا خالة؟

- يا بنتي أولادي الثلاثة يخدمون على جبهات الوطن، سامر ضابط بالجيش يخدم على الحدود في المنطقة الجنوبية منْ بلدنا، وفارس مهندس يخدم فترة احتياط على حدود المنطقة الشرقية، أما الصغير رامي فتخرّج منْ دراسة الهندسة العسكرية ويخدم  في الشام.

سألتها: ووسام يا خالة؟

- وسام كبدي إبني البطل أنهى مهمته بيننا، لقد استشهد على أحد جبهات حلب منذ ثلاثة أعوام، وعاد لملكوت الخالق يا بنتي.

غصْتْ بدمعة سكنتْ أحداقها وأبتْ أن تهطل، وأكملتْ قائلة:

- لقدْ ساعدوني بعد وفاة والدهم فكانوا يعملون ويدرسون حتى أعانهم الله وتخرّجوا.

قاطعتها أمّ حسن بسياق الحديث قائلة:

- كيف يطمئنوك عنهم؟

- الحمد لله يتكلّمون معي كلما سنحتْ لهم فرصة، فأنا لا أعرف كيف أخابرهم ولا أعرف أرقام جوالاتهم، لكنهم يكلّموني كل فترة على

الهاتف الأرضي لأطمئن عنْ أوضاعهم.

وأكملتْ وهي تُعيد صبّ فناجين القهوة:

- لمْ أحب السياسة يوماً ولا سماع نشرات الأخبار لأني أُصاب بدوار حين أرى مناطق الدمار على شاشة التلفاز.

قالتْ أمّي:

- وأنا لمْ أعدْ احتمل سماع التحليلات والحوارات السياسية المُضنية.

وكل الجارات عبّرن عن رأيهن بهذه الناحية بأسلوبٍ مختلف.

أكملتْ أمّ وسام:

- لكنْ هذه الفترة عدت أتابع أخبار انتصارات جيشنا، وأخبار المناطق التي يتواجد فيها أبنائي.

فما كان من الجارات الموجودات .. أمّ حسن .. وأمّ فراس .. وسعاد ..وهند .. وأمّ ياسر .. وليلى .. وأمّي وأنا، إلا ذكر الدعوات بأن يحفظ الله أبنائها وكل أبطال حماة وطننا.

مضى الوقت بسرعة، والجارات رشفن آخر رشفات القهوة ونهضن للذهاب.

وفي الخارج أدهشتني حديقتها التي لمْ أتمعّن بها جيّداَ أثناء قدومنا، فالأرض مُحاطة بسياج رائع من الأشجار ويبدو هذا السياج كأنه يطوِّق البيت بذراعيه ليحميه.

لقدْ رتبتْ قسماً لزراعة بعض الخضار وباقي الأرض مشكّلة بأشجار مُثمرة، أما مدخل البيت فآية منْ جمال الورود والرياحين.

وسألتها سعاد: كيف تجدين وقتاً للاعتناء بالأرض؟

ردتْ أمّ وسام بشيء من الاعتزاز:

- حين أتعب من الخياطة، أخرج لحديقتي وأجلس على ترابها الطاهر، أشعر بعظمة كل حبّة، وحين أمسك حفنة من التراب بيدي، أحسّ بنبض الحياة منْ جديد، حقاً أنا أنسى همّي هنا، وأشعر بمتعةٍ كبيرةٍ أثناء الاعتناء بالأرض فقد أصبحت حديقتي قطعة منّي.

توقّفتْ بنا عند مدخل بيتها لنشاهد الأحذية العسكرية التالفة لأبنائها، التي تركوها هنا، فملأتها بالتراب وزرعتْها بأجمل الورود واعتنتْ بها بشكلٍ ملفت حتى أزهرتْ أحذيتهم حبقاً وياسميناً وجورياً.

قلت لها: كمْ أنت عظيمة يا خالة، لقد صنعت لوحة فنية ثمينة ومُذهلة.

قالتْ: لا أعرف القراءة ولم أقرأ التاريخ يوماً، لكن أشعر أني منْ هنا أكتب شيئاً منْ تاريخٍ جديدٍ لبلدنا مع أبنائي من الجبهات، وسيزهر الحق يوماً كما تُزهر حديقتي خيراً.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]