الاستيطان الصهيوني في فلسطين: البدايات
تستعرض زاوية "وإننا لعائدون" تاريخ ومراحل الاستيطان الصهيوني لفلسطين، والبداية بمرحلة الهجرة اليهودية التي لم تكن بدأت كحركة استيطانية عنصرية بعد.
قد تكون مفاجئة لدى البعض الرواية التاريخية للاستيطان اليهودي في فلسطين عندما ندرك أنها تغوص في التاريخ البعيد لفلسطين. فكثيرون يعتقدون أن الاستيطان مرتبط بالنكبة، قبلها، أو بعدها بقليل، لكن الحقيقة أن الاستيطان اليهودي- الصهيوني مرتبط تاريخيا بالمشاريع الاستعمارية للمنطقة، وقد لا تكون حملات نابليون بونابرت أقدمها، حيث تتوافر معطيات عن الاستيطان اليهودي- الصهيوني منذ الحقبة الصليبية، وربما قبل ذلك.
والأهم، إن الاستيطان اليهودي-الصهيوني، والاستعمار-الغربي الطابع أساسا- بأشكاله، ومراحله، وهوياته المختلفة، وجهان لعملة واحدة. وإن تماهت اليهودية كدين، مع اليهودية المتصهينة، فقد تم ذلك بعد قيام الكيان الصهيوني-العنصري في فلسطين حيث جذب المشروع الاسرائيلي اليهود العرب المقيمين تاريخيا في كنف الخلافة الإسلامية، أسوة ببقية الأديان، والطوائف، والمذاهب، والاثنيات، لكن هؤلاء- اي اليهود العرب ما قبل الاستيطان اليهودي الصهيوني- الاستعماري، لم يشكلوا في يوم من الأيام، مشروع دولة أو سلطة، ولم يطالبوا بذلك، وعاشوا حياتهم بين بقية الفئات على اختلاف مشاربها كمواطنين بغض النظر عن هويتهم الدينية.
من هنا، يسمي كثيرون من الفلسطينيين مواطنيهم اليهود، ب"اليهود الوطنيين"، تمييزا لهم عن اليهود الذين وفدوا على أكتاف المشروع الاستيطاني- الصهيوني-الاستعماري.
بعد قيام الكيان الصهيوني في فلسطين، اندمج اليهود المحليون بالوافدين، والتحقوا بمشروع الدولة الاسرائيلية، كما نذكر كم من اليهود الذين كانوا يعيشون في البلاد العربية، ومنها لبنان، كيف تركوا موطنهم الذي حملوا جنسيته، والتحقوا بالكيان العنصري الجديد، ولذلك، يثار جدل ونقاش طويل بين الدامجين لليهودية والصهيونية، وبين المفرقين بينهما، وللالتباس تبريرات متنوعة وكثيرة، ويبقى أبرزها أن الكيان الاسرائيلي لا يستقطب كل يهود العالم، ولا يؤيد كل يهود العالم ممارساته، ومنهم من لا يعترف بحق هذه الدولة في الوجود ويعتبرها عدوانا على شعب آخر.
وبغض النظر عن رواية "السبي البابلي"، وما تلاها من روايات قديمة في العهود الفارسية، والرومانية، والفتح العربي، والأندلس، وسواها من روايات، يمكن رصد أولى الهجرات اليهودية إلى فلسطين أوائل القرن السادس عشر، إثر خضوع فلسطين للحكم العثماني، فجاؤوا بدافع ديني، ورد فعل على اضطهادات تعرضوا لها في بلادهم، مثل بولندا، وروسيا، وظل الوافدون يأتون في حدود الوضع الديني حتى منتصف القرن الثامن عشر، وظلوا أقلية تحظى بحماية الدولة العثمانية حتى أوائل القرن التاسع عشر.
حتى ذلك التاريخ، كان اليهود مجرد مهاجرين لاجئين هربا من اضطهاد بعض المجتمعات لهم، ولم يسجل لهم في تلك الحقبة أية مطالبة سياسية بفلسطين، ولا بحق تاريخي لهم فيها، وظلت الأقلية اليهودية هامشية من ناحية أعدادها وتأثيرها حتى أواسط القرن التاسع عشر الميلادي.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر، شعر اليهود تغيرا في سياسة الدولة العثمانية لمصلحتهم، وربما كان ذلك تحت ضغط الدول الغربية، إلى أن أعلنت بريطانيا الحماية لهم عام ١٨٣٩، تاريخ ينبيء ببداية المشروع الاستعماري-الصهيوني لفلسطين، فزادت هجرتهم إلى القدس، وأقاموا فيها أول مستوطنة تحت اسم "أوهل موشيه" أي "خيمة موسى" إشارة إلى أحد أبرز اركان الحركة الصهيونية عام ١٨٣٣ "موسى مونتفيوري" الذي كرر زياراته إلى فلسطين، واعتبرت حركته نقطة تحول في برنامج تحسين أوضاع اليهود في فلسطين.
بذلك، تعتبر ثلاثينات القرن التاسع عشر بداية حركة الاستيطان الصهيوني-الاستعماري لفلسطين.
في بحث مطول من عدة فصول، أعده الباحث الفلسطيني عمر حسن الراشد وخص به "الميادين نت" بعنوان "التسرب والهجرة الاستيطانية اليهودية في فلسطين" من ١٨٠٠- ١٩١٤، يوضح الكثير من التطورات التي أدت إلى الاستيطان، وصولا إلى إقامة الكيان الصهيوني، ويذكر أن "هجرة اليهود إلى القدس زادت أواخر ثلاثينات القرن التاسع عشر، من هولندا وألمانيا، وتلا بعد ذلك إنشاء مركز يهودي عام ١٨٤٣، ثم مصنع للنسيج عام ١٨٥٤، فعدد من المستوطنات المختلفة الأهداف في القدس وضواحيها".
ثم يتناول الراشد مساعي مونتفيوري بتوسيع مشروعه الاستيطاني على أمل استعمار فلسطين، وتوطين اليهود فيها، فاستطاع الحصول على قطعة أرض، وبنى عليها أول حي للسكن، خارج أسوار مدينة القدس، وعرف ب"حي مونتفيوري"، وحصل بالقرب من يافا على "بيارة" أقام فيها مدرسة زراعية لتدريب اليهود على الزراعة، وتعزيز بقائهم فيها.
بدأت مساعي مونتفيوري بالتعاون الحثيث مع بريطانيا، وبتشجيع منها، فسعى (مونتفيوري) لإقناع محمد علي باشا والي مصر، لشراء أو استئجار أراضٍ في فلسطين لمدة خمسين عاما، وكرر التجربة، لكن محمد علي، كما ابنه ابراهيم، رفض الفكرة لتلمسه أنها لعبة بريطانية.
لم تتوقف مساعي مونتفيوري أمام رفض محمد علي باشا، بل عزز خطواته مستندا على الدعم البريطاني، فتمكن سنة ١٨٥٥ أن يمول شراء أول "ضيعة" أو قرية في فلسطين، بجوار مدينة يافا، لكي يستغلها مهاجرون يهود يريدون العودة إلى ما بات يروج له ك"أرض الميعاد"- فلسطين.
في المرحلة الأولى للاستيطان، أواسط القرن التاسع عشر، شهدت الهجرة اليهودية إلى فلسطين ازديادا ملحوظا في ظل تغلغل النفوذ الأوروبي. وفي عصر التنظيمات التي تمت تحت ضغط الوفود الأوروبي إلى الشرق، قفز عدد اليهود إلى ٢٢ ألفا، وشكلوا نحو ٥٪ من مجموع سكان فلسطين عند البدء الرسمي، والمتعارف عليه للهجرة اليهودية سنة ١٨٨٢.
ويتناول راشد، لاحقا، تطورات الاستيطان الصهيوني-الاستعماري ابتداء من أواسط القرن التاسع عشر، على أن يتلو ذلك عرض لحركات المقاومة العربية للاستيطان، وتدخلات بريطانيا لفرضه فرضا.
ملاحظة: المعلومات التاريخية عن الاستيطان تستند إلى دراسة عمر الراشد.