مهجر يستقي صور فلسطين فتحيا في ذاكرته

الطنطورة قرية على شط البحر، تحيطها مجموعة من الجزر والأودية، وتحيط بها جبال الكرمل الخضراء من جميع الجهات. رملها أبيض براق، وسمكها لا أستطيع وصف طعمه. لم أَجِد بقريتي إلا بيتاً قديماً قيل لي إنه منزل آل اليحيي، ومقام البجيرمي، وحائطاً لسور بيت هدمه الاحتلال اتكأت عليه لأبكي أهله، وأخبرته بأني بنت هذه القرية، ولكني غريبة عنها الآن، وأتيت متأخرة لأجد مجموعة من حجارة البيوت المهدمة منذ سبعين عاماً خلت.

عندما يكون الوطن غائباً عنك واقعياً، تشتد الأحلام وتطغى على الروح والعقل معا صور مبعثرة عنه، واقعياً هناك جزء من هذا الوطن عاش معي، ونقل عقلي الحاضر والباطن اليه لينغرس عميقا تحت ترابه، إنها جدتي "جميلة الدسوقي" التي ترملت، واستشهد زوجها دفاعاً عن قرية الطنطورة مع رفاقه، وأبناء عمه، وأخواله.

 

كانت جميلة في ريعان صباها، عمرها لم يتعد الخامسة والثلاثين ربيعاً. حملت ثلاثة شباب بمقتبل العمر، وأربع بنات معها لتتهجر، وتعبر دولا عددها أكبر من عمرها. هي هذه الجدة التي كانت تربطني بكل جزء من الطنطورة، ومن قرى ومدن فلسطين الأخرى.

 

ماتت جدتي، وجاء يوم أتيح لي فيه زيارة وطني. سبعة أيام، بدأت فيها عودتي لوطني بصفتي أحمل جنسية غير فلسطينية، إلى جانب هويتي الأصلية التي ليس لي منها بديل. كان قلبي مليئاً بدموع لم تستطع عيناي ذرفها، لأني لم أصدق كيف اربط الواقع بالخيال.

 

انطلقت من قرية الفراديس القريبة من الطنطورة، ثم إلى الطنطورة. انه الواقع بالفعل. دخلت الطنطورة، ومشيت على رملها، لكني قبلته، أولا، حتى أتأكد من تلك الرائحة التي وصفتها لي جدتي منذ كنت طفلة. نعم، إنها رائحة الأجداد، والأرواح التي طالما انتظرت أحباءها.

 

الطنطورة قرية على شط البحر، تحيطها مجموعة من الجزر والأودية، وتحيط بها جبال الكرمل الخضراء من جميع الجهات. رملها أبيض براق، وسمكها لا أستطيع وصف طعمه. لم أَجِد بقريتي إلا بيتاً قديماً قيل لي إنه منزل آل اليحيي، ومقام البجيرمي، وحائطا لسور بيت هدمه الاحتلال اتكأت عليه لابكي أهله، وأخبرته بأني بنت هذه القرية، ولكني غريبة عنها الآن، وأتيت متأخرة لأجد مجموعة من حجارة البيوت المهدمة منذ سبعين عاماً خلت.

الطنطورة قرية على شط البحر، تحيطها مجموعة من الجزر والأودية، وتحيط بها جبال الكرمل الخضراء من جميع الجهات
لايستطيع المرء تفضيل مدينة على أخرى اذا كانت جزءا من روحه

كان حماسي يشدني لبئر، كنت أظن بأن جدتي كانت تضحك علي وهي تخبرني عن عذوبة مائه، ومذاقه الحلو في البحر في قلب مياه البحر. رأيته بأم عيني ....نعم إنه بئر كان أهل الطنطورة يشربون منه، ويحممون العريس من مائه قبل زفه. رأيت، وحدقت، وصورت، لكني كنت أعتبر أني مازلت أعيش في حلم ...

 

في احداث مذبحة الطنطورة ، تم تهجير سكانها الى الفراديس القريبة بواسطة باصات نقل بعد ان تمت سرقة ماتحمله النساء من مجوهرات، ونقود من قبل جيش الاحتلال، وكانت الحاجة رشيدة الأعمر ضمن المجموعة، وقد قابلتها، وروت كيف تم قتل زوجها، وهو ابن عمها ايضا، أمامها، وكيف أجبرت على المغادرة، ولكنها عادت بعد عدة ايّام للقرية بشكل سري لتعرف ماحصل لها. الحاجة رشيدة بقيت حتى الآن في الفراديس، وترفض رفضا قاطعا زيارة الطنطورة قبل تحريرها. لم تجف دموعها حتى اليوم، وكأن المجزرة قد حصلت للتو ....

 

لقد عدت لوطني، نعم، وزرت حيفا، وعكا، والقدس، لكني غريبة طالما كنت مجرد زائرة لوطني. حققت العودة الصغيرة على أمل تحقيق العودة الكاملة لشعبي الفلسطيني كله.

 

لم تكن الدهشة تفارقني كلما مررت بشارع او زقاق، وفي طريقي إلى حيفا، تلك المدينة التي لم أر مثلها في حياتي، تحيطها جبال الكرمل، ويحرسها البحر من كل الجهات. مررت بأحيائها القديمة، حي الطنابر الذي أسماه الاحتلال حي باريس، مازال يحتفظ بنكهة ورائحة أهله الأصليين. رأيت بقايا بنايات قديمة بدون نوافذ تم تهجير أهلها منها بالقوة. المدينة متناقضة تماما لأن الاحتلال حاول جاهدا إظهار وكأن الأحياء العربية متخلفة مقارنة بأحياء أخرى بناها حديثا.

 

تابعت جولتي لمدينة عكا، تلك المدينة ذات الأسوار العالية، والتي مازالت حصنا منيعا على الاحتلال، مازالت تحافظ على طابعها الفلسطيني الشرقي. أسواقها القديمة، ودكاكينها المتهالكة، والتي لايستطيع أصحابها حتى ترميمها لسبب واحد، وهو كي تقع فتكون حجة يصادرها الاحتلال، ويضع يده عليها بالكامل.

 

في عكا، زرت مقبرة النبي صالح والتي دفن فيها ابطال ثورة 1936، محمد جمجوم، وفؤاد حجازي، وعطا الزير. ماتزال قبورهم مزارا لأهل عكا حتى يومنا هذا. ومازال جامع الجزار قائما، والآذان فيه من أروع ماسمعت، وما زال أهل عكا يقاومون خطة الاحتلال لبيع بيوتهم القديمة والتاريخية عبر المظاهرات، والاعتصامات الدائمة، ويكتبون على أبواب حاراتهم ( مش للبيع ).

 

لايستطيع المرء تفضيل مدينة على أخرى اذا كانت جزءاً من روحه، ويفتقد غيابها كأنها جزء منه، فلكل مدينة نكهتها وروحها. القدس عاصمة الله، وله فيها النصيب الأكبر، أحياؤها القديمة شديدة الشبه بأحياء دمشق، فيها شعب حي يقاوم، ويحاول الحفاظ على ماتبقى له من بيوت.

 

قبل ليلة من ذهابي للقدس، اطلعت على خارطتها لأعرف أبوابها الكثيرة، والتي يطل كل باب فيها على سوق وزواريب القدس العتيقة. انتابتني رعشة برد رغم الحر الشديد وانا في الطريق فجراً إليها. كان باب العامود أول باب دخلنا منه الى مدينة الصلاة. مشينا كثيرا عابرين السوق الطويل الذي يعرض بضاعته للسواح. منتجات لليهود، والمسلمين، وللمسيحيين ، وكأن التجارة وحدها ما يوحد الأديان !

دخلت للمصلى المرواني حيث أناقة السجاد الاحمر الوثير، والذي تتعدد فيه قاعات الصلاة، وتعليم القرآن، ودروس الدين. بعدها رأيت من أعلى الحائط البراق الطويل والمملوء بالبشر، وحتى ادخله كان علينا أن نخضع لتفتيش دقيق. حراسات أمنية فقط لليهود الذين يصلون أمام الحائط، وعنف ممنهج ضد العرب بسبب وبدون سبب.

 

تجولنا تحت قبة الصخرة التي بناها عبد الملك ابن مروان حتى نستطيع العبور لأبواب أخرى، ورغم الازدحام الشديد، والحر الاشد، فإنه لايزعحك الا وجود قوات صهيونية تملأ المكان من كل حدب، وصوبوا أسلحتها الكاملة وكأن الحرب بدأت لتوها ...

 

مايزيد الفلسطيني، وأي زائر للقدس، فرحا رؤيته السلسلة البشرية الطويلة من النساء والرجال الذين يبقون ليلا نهارا ليحرسوا الاقصى من دخول الجنود الصهاينة اليه. انهم يتناوبون فيما بينهم ليلا ونهارا، وهناك فئة تقوم بإعداد وجبات الطعام لهم بشكل مستمر. هذا ما أعطاني كفلسطينية أملا كبيرا بأن فلسطين لابد ستعود طالما فيها شعب بهذا الإصرار والتحدي.

 

والقدس، كما هوم معروف، مدينة للديانتين الاسلامية والمسيحية. دخلت لقبر النبي عيسى عليه السلام حيث قبر صغير في غرفة صغيرة لها باب صغير يقف الناس بطابور يعبرونه للصلاة بثوانٍ ويخرجون من باب اخر. وفي نفس القاعة، توجد مجسمات، وصور عن مولد المسيح، ومن رعاه، ورباه، والحواريين من حوله، اضافة لوجود خشبة كبيرة ينحني لها المصلون، ويقبلونها لان المسيح قد صلب عليها. هناك مبانٍ فسيفسائية رائعة في القدس تعبر عن تاريخ الدينين المسيحي والإسلام وعمق حضارتهما في التاريخ.

 

تبقى زيارة القدس ناقصة إذا عبرها الزائر دون تذوق كعكها المتنوع ذي الطعم الخاص، وعليه أيضا أن يخرج بانطباع كامل بأن هذه الارض عربية ومسيحية - إسلامية بامتياز.

 

في الجليل الأعلى شمال فلسطين لاترى الا جبال الكرمل التي تأبى الا أن ترافقك أينما حللت في فلسطين. هنا قرية الشجرة التي ولد فيها ناجي العلي، وأبو عرب. قرية الشجرة بالجليل الشمالي بين طبريا والناصرة تحيط بها مجموعة من الخرب وهي قرية أثرية، تشرد اهلها عام 48، ومن ابرز أحداثها معركة الشجرة التي استشهد فيها المناضل الفلسطيني عبد الرحيم محمود ، والى جانبها قرى مهجرة أخرى مثل لوبية، وكفر كنا، وكفر سبت ، وحطين، ونمرين وغيرها.

 

ثم إلى قرية البروة، مسقط رأس الشاعر محمود درويش، وحولها قرى الاستيطان الصهيوني التي مازالت تتوسع وتبتلع كل ماحولها. كانت تتبع لقضاء عكا، وتقع شرقها، وكانت تعرف باسم "برويت"وهي قرية كبيرة تنتشر فيها أشجار الزيتون، وقد تم احتلالها عام 48، وتعرف أراضيها بشدة خصوبتها.

 

كم كنت أتألم بعد كل زيارة جديدة لمكان جديد في بلدي لان روحي لاتستوعب هذا الظلم والحرمان منها. ومن يزر فلسطين، ويرى قراها الكثيرة، والممتدة، والاشجار المحيطة بها، يعرف جيدا أن هذه الارض لن تبور رغم محاولات الاحتلال العبث بكل شيء لتهجير سكانها.

 

ومن يعد لفلسطين مرة كزائر، لايمكن أن يسمح لنفسه أن يبقى مجرد زائر في المرة الثانية.