في ذكرى وعد بلفور: الكيان الصهيوني بين الوعد والوهم
هزة أخرى زلزلت الكيان الصهيوني حين اعتقد العدو أن اجتياحه للبنان، وطرد الفدائيين، وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، ستكون بداية لمرحلة من الأمن وسلامة للجليل، كانت الولادة الرائعة للمقاومة الوطنية، والإسلامية اللبنانية التي راكمت الانتصارات التي فرضت انسحاب العدو، وعملائه من جنوب لبنان عام 2000. وكان هذا ايذاناً بولادة عهد جديد بشر به السيد حسن نصر الله حين قال:"ولى زمن الهزائم وبدأ عهد الانتصارات".
إن فكرة ومشروع إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين، فكرة استعمارية غربية نفذتها بريطانيا من ألفها إلى يائها منذ أن أعطى بلفور وعده بإقامة دولة لليهود في فلسطين في 2تشرين الثاني/نوفمبر 1917 وإلى أيامنا الراهنة.
وتتلخص أهداف المشروع في عدد من النقاط لعل أهمها:
1- التخلص من وجود اليهود في أوروبا.
2- إنشاء قاعدة عسكرية لتأمين مصالحهم في مستعمراتهم جنوب آسيا.
3- إقامة حاجز يمنع تواصل، ووحدة مشرق العالم العربي، مع مغربه.
وتم استخدام الحركة الصهيونية، واليهود، كأداة لتنفيذ هذا المشروع.
وفي نظرة واقعية إلى المئة عام المنصرمة يمكننا تقسيمها إلى مرحلتين:
المرحلة الأولى التأسيس:
وهي تشمل العقود الثلاثة من تاريخ إصدار الوعد 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917 إلى 15 أيار/مايو 1948، تاريخ انسحاب بريطانيا، وإعلان المجرم بن غوريون ولادة دولة الكيان الصهيوني في فلسطين.
هذه المرحلة بريطانية بامتياز. فرضت فيها بريطانيا انتدابها على فلسطين لتتمكن من تحقيق الوعد والأهداف أنفة الذكر. وقد أنجزت بريطانيا مهمتها بنجاح على حساب الشعب الفلسطيني، فقامت بتشجيع هجرة اليهود الى فلسطين. ولم يستطع عرب فلسطين أن يوقفوا تدفق قطعان المستوطنين رغم الثورات المتواصلة (ثورة العشرينات، ثورة 1936، حرب 1947-1948)، وذلك بسبب تواطؤ الأنظمة العربية مع "حليفتهم بريطانيا".ويكفي أن نعلم أن عدد اليهود في فلسطين ارتفع من50 ألف في نهاية الحكم العثماني، إلى 650 ألفاً في نهاية الاستعمار البريطاني، لندرك حجم الدور الذي لعبته بريطانيا في تأمين العنصر البشري للكيان الصهيوني.
في الجانب العسكري أنشأت بريطانيا مجموعات وكتائب عسكرية يهودية في مختلف صنوف الأسلحة شاركت مع الجيش البريطاني في معظم معارك الحربين العالميتين، لا سيما في معارك دمشق، وبيروت، وانتزاعها من سيطرة قوات "فيشي ".
بعد أن إطمأنت بريطانيا إلى جاهزية العصابات الصهيونية، قامت بأهم وأخطر عمل ضد عرب فلسطين، وذلك حين سلمت كل مؤسسات دولة الانتداب إلى اليهود، من ذلك: المطارات، والمرافئ، والمراكز، والثكنات، والمستودعات، ومحطات سكة الحديد، ومصفاة النفط، وغيرها الكثير.
وفي المقابل نسفت بريطانيا كل بيت فلسطيني كانت تجد فيه بندقية، أو طلقة نارية واحدة، وكذلك منعت جيوش العرب من التدخل نصرة لفلسطين، واعتبر الحاكم البريطاني: "أن تدخل الجيوش العربية يعتبر عملاً عدائياً ضد بريطانيا". وبعد كل هذا نجد بين الفلسطينيين والعرب من يعتبر أن بريطانيا صديقتنا وحليفتنا!
المرحلة الثانية: الحضانة والرعاية
وهي المدة الممتدة من إقامة الكيان 1948، والاعتراف بدولة ''إسرائيل ''في الأمم المتحدة إلى أيامنا الراهنة.
على الرغم من أن الكيان عمر قرابة السبعين عاماً، فإنه لا زال في مرحلة الحضانة، والرعاية الأميركية التي ورثت بريطانيا في هذا الدور وغيره.
في بداية حرب 1948، قام اليهود بتظاهرة توجهت إلى بيت بن غوريون مطالبين بالعودة إلى الدول الأوروبية لأنهم لم يجدوا حلمهم في الوطن الموعود، وأنهم لا أمن ولا أمان لهم في هذه البلاد، طلب منهم أن يمهلوه عدة أيام. خلالها تدخلت بريطانيا مع الحكام العرب، وتم فرض الهدنة الاولى في حزبران 1948، بعد أن كان المجاهدون على أبواب تل أبيب، والحارات اليهودية، والمستعمرات محاصرة.
استقدم بن غوريون صفقة أسلحة تشيكية كانت سبباً في تحول الحرب لصالح العدو الذي فرض شروطه في هدنات رودس مع الأنظمة العربية 1949. وبعد ذلك بدأ الحرص الغربي على ميزان التسلح أن يكون مائلاً بشكل دائم لصالح العدو. وقد أسهمت معظم الدول الغربية في تأمين الترسانة الصهيونية من مفاعل ديمونا النووي الذي أنشأته فرنسا، إلى أسراب طائرات الميراج، والسكاي هوك، والفانتوم الأمريكية راهنا. وهذا مكن العدو من توجيه ضربة ساحقة للعرب عام 1967، وتم احتلال الضفة الغربية، وغزة، والجولان، وسيناء. وعلى الرغم من ذلك، فان الكيان لا زال يعاني من خطر وجودي. فقد استمرت حرب الاستنزاف، وانطلقت فصائل الفداء الفلسطيني، وقوي عودها، وعديدها بعد معركة الكرامة في غور الاردن 1968.
هزة أخرى زلزلت الكيان في حرب تشرين/أكتوبر 1973،وحين اعتقد العدو أن اجتياحه للبنان، وطرد الفدائيين، وارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، ستكون بداية لمرحلة من الأمن وسلامة للجليل، كانت الولادة الرائعة للمقاومة الوطنية، والاسلامية اللبنانية التي راكمت الانتصارات التي فرضت انسحاب العدو، وعملائه من جنوب لبنان عام 2000. وكان هذا ايذاناً بولادة عهد جديد بشر به السيد حسن نصر الله حين قال :"ولى زمن الهزائم وبدأ عهد الانتصارات".
تبعاً لذلك، شاهدنا اندحار العدو عن قطاع غزة دون قيد أو شرط ودون تفاوض. وفي محاولة تحسين أوضاعه، وضمن مخطط أميركي لولادة الشرق الأوسط الجديد، كان العدوان الصهيوني على لبنان تموز 2006، وعلى غزة عامي 2008 و2009، وكانت النتائج صادمة للكيان وأعوانه، ومن هذه النتائج:
1-لأول مرة في الحروب مع العدو الصهيوني تكون المدن والمستوطنات مسرحا لهذه الحرب.
2- لأول مرة نشهد هجرتين داخل الكيان: الاولى من الكيان الى الخارج، والثانية من الشمال الى الجنوب بعشرات الالاف طلبا للامن والامان.
3- لأول مرة يظهر النتاج العملي لتحالف المقاومة اللبنانية والفلسطينية مع سوريا والثورة الإسلامية في إيران التي تبنت موقفاً عقائدياً ضد العدو الإسرائيلي منذ انتصارها على الشاه المخلوع عام 1979.
لقد أثبتت هذه الوقائع صحة ما توصل إليه المؤتمرون الصهاينة في هرتزليا 1998 في الذكرى الخمسين لولادة كيانهم المسخ، وهو أن: "إسرائيل لا زالت تعاني من خطر وجودي"، وهذا تشخيص صائب، وهو تكرار لشعور اليهود في عهد بن غوريون 1948.
إن هذا الواقع القائم، والمتجدد الذي يعيشه الكيان الصهيوني بكل أطيافه، يزداد قتامة مع تعاظم دور المقاومة اللبنانية والفلسطينية، عدة وعدداً، وخبرة وكفاءة، وتوسعاً في القاعدة الشعبية الداعمة من المغرب العربي إلى مصر، والمشرق العربي، والذي يعيد تشكيل ذاته على قواعد، وخبرات عسكرية ميدانية بعد القضاء على المنظمات الإرهابية، وبعد الانتصارات التي حققها، ويحققها محور المقاومة الممتد من طهران إلى غزة، مروراً بالأنبار، والجولان، ولبنان.
بعد سبعبن سنة من عمره، لا زال الكيان الصهيوني يعاني عزلة في المنطقة، فلم تتمكن اتفاقيات "كامب دايفيد" و"وادي عربة" و"اوسلو"، والاتصالات السرية، والعلنية من دمج الكيان الاسرائيلي ضمن دول المنطقة لان جماهير مصر، والامة العربية قالت كلمتها: لا للتطبيع مع هذا الكيان الغاصب، ونعم لمقاطعته التي نراها في اكثر من بلد عربي، ولن يكون اخرها طرد الوفد الاسرائيلي من المؤتمر الشبابي في روسيا.
لقد ورثت الولايات المتحدة الأميركية، وتبنت حضانة الكيان الصهيوني بعد ضعف بربطانيا، وقدمت، ولا زالت تقدم أحدث الأسلحة، وأفتكها، والمليارات من الدولارات سنويا، وتفرض على بعض الدول مثل ألمانيا تقديم المساعدات المالية، والعسكرية مثل الزوارق الحربية، والغواصات النووية (شيربورغ ودولفين)، ولولا هذه المساعدات لما تمكن الكيان من الصمود في اي مواجهة قادمة.
ان هذا الكيان بعد مئة عام من وجوده لا زال'' أوهن من بيت العنكبوت ''، كما قال عنه السيد حسن نصر الله، وهو يعاني من تفكك بنيته الاجتماعية، ومن صراعات حادة عقائدية وحزبية داخله، وخلل في منظومته العسكرية رغم امكاناتها الهائلة، وثبت بالتجربة انه كيان يهزم، وسيهزم باذن الله، وبسواعد المجاهدين.
وبقي ان نقول انه على الرغم من ظاهر العداء لامتنا من الولايات المتحدة، لا زال في امتنا من يقول ان%99 من اوراق الحل بيد أمريكا، وان امريكا صديقتنا تماما كما كان يقال عن بريطانيا من قبل.
أما آن لنا أن نرى الواقع ببصرنا وبصيرتنا، وأن نميز العدو من الصديق!!