صفورية: جولة بين النكبة والحاضر وصراع البقاء والعودة
الـ"صفورية" من البلدات الفلسطينية التي هجر جيش الاحتلال الإسرائيلي أهلها عام النكبة 1948، ودمرها بالكامل ولم يبق فيها سوى دير وبقايا قلعة. تهجر سكانها خارج فلسطين وقسم بقي موزعاً في البلدات الفلسطينية الأخرى، خصوصاً في مدينة الناصرة حيث تجمعوا في حي خاص بهم اسم حي الصفافرة.
صفورية واحدة من مئات البلدات التي دمرها الصهاينة عام 1948، وأقاموا على أراضيها مستعمرتي: تسيفوري، وهسوليليم، عام 1949، في مستعمرات: ألون هغليل عام 1980، وهوشعيا عام 1981، وحنتون عام 1974، وكان فيها 4330 نسمة عام 1945.
وصفورية بلدة كبيرة تقع على بعد 7 كيلومتر إلى الشمال الغربي لمدينة الناصرة، وتعلو 175 متراً عن سطح البحر. ويرجح الباحث الفلسطيني حسين لوباني أن يكون اسمها تحريف لإحدى الكلمات السريانية الآتية: صافرية بمعنى الصباح، وصفرة بمعنى عصفور أو طائر صغير، وصفرايا بمعنى جدي الماعز، غير أن الأكثرية تجمع على أن اسم البلدة هو تحريف "صفرة" بمعنى: طائر، وذلك لتلبدها فوق أرضها كما يجثم طائر الصفري على قمة التل، ولا يبرح مكانه.. عرفها الرومان باسم "صفوريوس" وذكرها الفرنجة باسم صفوري (بكسر الصاد)، وكانت مدينة في عهدهم.
تحيط بها أراضي قرى: رمانة، سخنين، المشهد، عيلوط، كفرمنده، اعبلين، وشفا عمرو.
تحتوي البلدة على مواقع أثرية عديدة، ويحيط بها مجموعة من الخرب الأثرية، منها: بلدة "حناتون" الكنعانية ومعناها: المنظور إليه بالنعمة، و"خربة الخلادية أو الخالدية، وخربة المشيرفة، وخربة مشمسية، وخربة أم احمد، وعين القسطل، وعين أبو راس، والنبي اقبال.
من أبنائها الذي هجروا منها في نكبة 1948، عبد الرحمن علوش
أسابيع قليلة قبل رحيله، كان عبد الرحمن علوش، المعروف بالأستاذ والمربي الكبير في أوساط فلسطينيي الشتات، يتمنى العودة إلى فلسطين، وبلدته صفورية، ولو لدقائق، وحتى بعد رحيله، أن ينقل إلى بلده، كما قال:
ويتذكر الأستاذ عبد الرحمن السكان الكثر، فهي بلدة كبيرة، والبيوت جلها قديم:
كما يتذكر اتساع الأراضي، وتعاطي الناس بالزراعة أساساً في عملهم:
ويبقى من خيرات الأرض الكثير، كما قال، ذاكراً كيف كان السكان يبيعون الفائض للبلدات المجاورة نقلاً على ظهر الدواب للمناطق القريبة، وبالسيارات نحو المدن البعيدة:
وتناول من ذاكرته قبل التهجير أقسام البلدة الإثنين، والحصاد، والبيادر:
والمدرسة التي تلقى علومه فيها:
ويحاول بصعوبة تذكر ما يعرفه عن البلدة حالياً، ومكوناتها المتبقية:
جولة رنا العوايسة:
رنا العوايسة ناشطة في إطار تحرك العودة، وباحثة جامعية، أهلها من مهجري صفورية الذين لجأوا إلى الناصرة، وأقاموا فيها، وأسسوا فيها حياً كبيراً يعرف بحي الصفافرة. قامت بجولة في البلدة، وروت مشاهداتها، مستهلة كلامها بملاحظة عن أهمية صفورية من خلال الحفريات التي تظهر تنوع وغنى الحياة الثقافية، والاجتماعية، تاريخياً، تشهد عليها بعض المعالم الأثرية الموجودة في البلدة مثل المسرح الروماني، القلعة، الفسيفساء، أقنية المياه تحت الأرض، وغيرها من آثارات.
وتروي العوايسة عن أحد اهم المعالم الموجودة في البلدة لغاية اليوم هو دير القديسة حنة، عمره أكثر من ألفي عام، وتقول إنه "يعتقد أنه أقيم على موقع بيت آل عمران، وسمي على أسم القديسة حنة والدة السيدة مريم العذراء، هذا الدير من المعالم التي لم يتم هدمها في القرية ويجري العمل فيه حتى يومنا هذا".
والقديسة حنة هي والدة السيدة مريم العذراء:
قبل احتلال القرية وهدمها كان الدير يقدم بعض الخدمات لأهل البلدة مثل الإسعافات الأولية وتعليم النساء بعض الحرف اليديوية، وكانت العلاقة مع أهل القرية طيبة جداً، كما تقول العوايسة، مضيفة:
"طبعاً إسرائيل تعاملت مع هذه الآثارات كغيرها من باقي الأثارات في فلسطين على أنها مجرد إثبات للوجود اليهودي ورواية الألفين عام، وربطتها بآيات وروايات توراتية بهدف إنكار أي حق فلسطيني في البلاد".
البلدة ممنوع من العودة إليها كما تفيد عوايسة، قائلة "حتى عندما نريد أن نزور القرية، علينا أن ننتظر أمام بوابة كهربائية لحين خروج إحدى سيارات سكان البلدة الإسرائيليين وتفتح البوابة، ونتمكن من الدخول خلسة إلى بلد آبائنا وأجدادنا".
وتشرح مشاهداتها:
هنا بساتين صفورية التي كانت تزود الخضرة والفواكة للـ"صفورية" والقرى والمدن المحيطة.
وهذا "وادي العين" وهو ينبع من "القسطل"، النبع الرئيسي في البلدة، ويمتد حتى خليج مدينة حيفا.
وهنا مقبرة تطل على تلة كان عليها معظم بيوت البلدة، وعن التلة نرى قلعة الظاهري عمر الأثرية.
وتلاحظ العوايسة الاستراتيجية التي اعتمدتها اسرائيل حيث زرعت مكان البيوت المهدومة أشجار الصنوبر والسرو، وهذه السياسة نفذتها في كل القرى المهجرة، لإخفاء معالم القرية الأصلية والتغطية على جريمة الهدم.
ومن أرشيفها، تعرض العوايسة صوراً لأدوات تراثية، ولوقائع قديمة في البلدة تعود لما قبل النكبة، وتعلق عليها:
أسس أهل البلدة جمعية "صفورية للتراث والعودة" بهدف حفظ الموروث الثقافي والعودة إليها، ومن أهم مبادراتها إقامة متحف يحوي تحفاً وأدوات استخدمها أهلنا قبل عام 1948. جزء كبير من الأدوات جمعها الأشخاص الذين كانوا يقصدون القرية بعد النكبة، حيث كانوا يتسللون لبيوتهم لجلب بعض الطعام أو الأغطية، فقد تشردوا وكانوا ينامون في العراء، وجزء كبير من هؤلاء المتسللين كانوا يقتلون في أثناء دخولهم، وتسللهم إلى بيوتهم المحتلة.
تظهر الصور القديمة بيادر صفورية حيث كان يتم فيه تجميع محاصيل السنة من قمح وشعير، والحبوب ودرسها هناك، ويظهر أيضاً مبنى عين صفورية الذي كان قائم وسط الجبل بمحاذاة الشارع الرئيسي.
يظهر أيضاً بداية الحفريات الأثرية في السنوات العشرين من القرن الماضي، والتي أظهرت تنوع وغنى الحياة الاجتماعية والثقافية على مر العصور والحضارات التي تعاقبت على صفورية متل الكنعانية والرومانية والهللينية وغيرها من حضارات.
كمال علوش
كمال علوش من جيل ما بعد النكبة، ولا يعرف البلدة سابقاً، لكنه يحبها ويلتزم بها داحضا مقولة "الكبار يموتون والصغار ينسون"، وهو من شعراء اللغة العامية في فلسطين، ومن مهجري صفورية. عاد إلى أرضه يزرعها، ويستثمرها، ويتفاعل معها، وينظم الأشعار لها دائماً. يعرف بشاعر "القسطل" نسبة إلى نبع الماء الموجود في بلدته.
يعيش علوش على ذكريات وطنه، ولا ينسى التواصل مع أهله المهجرين في الداخل، وفي الشتات. ويوجه لهم رسائل التعاطف التي تعبر عن التمسك بالأرض، والالتزام بتحريرها واستعادتها مهما طال الزمن:
كل ما في صفورية عشق لكمال. أكثر ما يأخذه من الألباب نبع ماء البلدة المعروف بـ"القسطل"، وعلى قدر محبته له، تكنى به كلقب لشاعريته:
ولا يتوانى علوش عن إبداء عشقه بأرضه في كل لحظة، مثل غالبية الفلسطينيين المهجرين الذين يتوقون للعودة، ولو للحظات رغم أنهم لم يحملوا ذاكرة حيوية لها:
من مميزات صفورية زراعة الملوخية التي اشتهرت بها، يساعد على نموها الغزير نبع الماء الذي يتدفق بكرم بين البساتين:
ولنبات الصبار مكانته في صفورية، وهو ثمار شهي، وحلو، لكنه تكاثر وانتشر بشكل واسع وكثيف مؤشراً لهجرة السكان لأرضهم. الصفوريون أحبوا الصبار، ويعتبرونه رمزاً لمنتوجهم الوطني: