كيف ردّ المصريون على هزيمة 1967؟

يتحدّث الكاتب المصري فؤاد حجازي  في روايته بلسان ضابط أركان حرب عن سوء التخطيط الذي قاد إلى الهزيمة، فهو يُطلعنا على إعداد العتاد وتجهيزه للحرب، إلا أنه لم تُجهز الخطط الكفيلة لمواجهة العدو في إعدادنا للحرب.

أول رواية مصرية عن سجون الإحتلال

يذكر الكاتب المصري أنور عبد اللطيف أنه بعد إنتهاء حرب أكتوبر 1973 زارت مجموعة من الجنود والضبّاط المصريين الذين كانوا مُحاصَرين في الثغرة، فؤاد حجازي في منزله وشكروه لأنه كان معهم طوال الحرب، وعندما قال لهم: ياريت.. كنت أتمنّى المشاركة، قالوا: كنت مشاركاً معنا بروايتين من تأليفك يتناوب الأفراد على قراءتهما بالمكتبة.

 الرواية الأولى بعنوان "المُحاصًرون" تدور حول كتيبة مصرية أيام حرب الاستنزاف، كانت تتدرّب على المدافع القديمة ورفضوا المدافع الجديدة وأصرّوا على خوض الحرب بالأسلحة التي شاركتهم مرارة الهزيمة، أما الرواية الثانية فهي "رجال وجبال ورصاص" وتحكي عن كتيبة مصرية في اليمن كانت كلما احتلت موقعاً في النهار تُغير عليهم القبائل وتستعيد الموقع في الليل، فلم يكن أمام الكتيبة إلا أن تنشأ بينها وبين القبائل علاقة مودّة ورحمة.

فقد كان لتجربة حجازي في الحرب والأسر في سجن عتليت، تأثيرها على كل أعماله التي بلغت 40 عملاً أدبياً،. فقد حوّلته أعماله إلى أهم الأدباء العرب ابتداءً من "غراميات أومباشى" التي نشرها المؤلّف عام 1965 أثناء حرب اليمن، "الأسرى يقيمون المتاريس"، "شارع الخلا"، "نافذة على بحر طناح"، "ملحمة أكتوبر فى عيون محارب"، "القرفصاء"، "متّهمون تحت الطلب"، "عنقودة وسمرة"، "الرقص على طبول مصرية"، وانتهاءً بروايته الأخيرة "قرون الخروب". ولهذا لقّبه النقّاد بـرائد أدب الحرب.

يسرد فؤاد حجازي من خلال روايته "الأسرى يقيمون المتاريس" في (120) صفحة، التي صدرت أول مرة عام 1976 وتوالت طبعاتها، وترجمت إلى اللغتين الإنكليزية والروسية ولقيت اهتماماً نقدياً كبيراً في أوروبا، ما حدث للأسرى المصريين في حرب 1967م، في سجن "عتليت" وهو إسم روماني انتحلته إسرائيل: توجد إلى جواره آثار رومانية يدعون أنها يهودية.

تبدأ رواية "الأسرى يقيمون المتاريس" بحكاية تصوّر كيف بدأت هزيمة1967، وكيف دخل الصهاينة العريش، وكيف انتصروا في "حرب الأيام الستة" كما يسمّيها الصهاينة.

في صبيحة الخامس من حزيران/ يونيو الحزين عام 1967، وبالتحديد في الساعة التاسعة كان جندي الشرطة العسكرية الذي يُنظِّم المرور المتّجه من العريش إلى رفح ـ يمدُّ ذراعه اليمنى مُشيراً إلى رفح، مُعترضاً بذراعه اليسرى أية عربة من الجيش مهما كانت رُتَب الراكبين فيها، أن تتقهقر إلى العريش، وظلّ هذا الجندي يؤدّي واجبه هو وزملاؤه في الكشك المجاور على أكمل وجه، حتى جاوزت الساعة الرابعة بقليل، حينئذ أخذت رصاصة ملتهبة، منطلقة من دبابة، على عاتقها مهمة فتح الطريق، أزاحت الجندي والكشك.

ويكشف هذا الحدث في أول الرواية عن الهزيمة التي أشاعت الفوضى في المكان، بعد إزاحة جندي الشرطة العسكرية الذي يمثل النظام. وستكون إزاحة "الكشك" الذي كان يمثل رمزاً لاستقرار السلطة، ستكون إزاحتهما مدخلاً للفوضى التي سبقت القضاء على الكثير من الجنود، والقبض على القليل منهم ليكونوا أسرى.

يوثّق حجازي في روايته الإجرام الصهيوني في حرمانه الأسرى المصريين من كل شيء، تضميد الجراح جرعة ماء، وجبات الطعام، الملابس النظيفة، الاستحمام، صابون التنظيف وحتى الخطابات القادمة من مصر، وهدايا المصريين والمعونات الإنسانية.

ويحكي حجازي كيف ردّ الأسرى المصريون على هزيمة 1967 بالإبداع الجمعي، فقد كانوا يصدرون كل يوم من خلال أكياس الإسمنت صحفاً ومجلات حائط يكتبون فيها تحليلاتهم السياسية والفكاهات ويتفنّنوا في تبادلها بين عنابر السجناء، كوّنوا فرقاً موسيقية مسرحية لعرض روايات كثيرة، منها أوبريت "ليلة مصرية" التي تعرض مشاهد من الحياة المصرية وابتكر منظراً "للقرداتى". فصاحب القرد يطلب منه أن ينام نومه الأسير فينام القرد على بطنه،  ويطلب منه سلام المصري، فيقفز في الهواء رافعاً يده بالتحية، وعندما يطلب منه سلام موشي ديان يرفع قدمه إلى وجهه بالتحية.

حرص حجازي ألا يربط البطولة المصرية في روايته بشخص واحد، بل ببطولة جماعية ترسم بطولات الأسرى في المقاومة وتنفيذ ما يريدون داخل الرواية،  حيث صبروا على جراحهم وعدم توافر طعام يقوّيهم على التئام الجراح، ثم تهريب ضابطين مصريين، وحرق العلم الإسرائيلي، وانتفاضة داخل المعتقل، وقذف الضباط الإسرائيليين بالحجارة وإصابتهم بهلع، ثم كيف بالأدوات البسيطة استطاعوا عبر قطعة قماش تكوين العلم المصري ورفعه.. رفضوا حلق شعورهم، وكل هذا ببطولة جماعية في نفس اللحظة.

ويتحدّث حجازي عن تفنّن السجناء في إغاظة السجّان ودفعه إلى الحيرة من تصرّفات بسيطة منها رسم "النجمة الإسرائيلية السداسية" على قمصان بيض ثم إحراقها رغم ما يؤدّي إليه ذلك من إطلاق نار ووقوع جرحى.

يتحدّث حجازي  في روايته "الأسرى يُقيمون المتاريس"، بلسان ضابط أركان حرب شارك في حرب 1967 كمُقاتل، كيف أن مصر هزمت  قبل أن تحارب، حيث هاجمتها الطائرات الإسرائيلية في الساعة التاسعة من صباح الخامس من يونيو 1967، وقضت على سلاح الطيران المصري في الهجمة الأولى، ومن ثم فقد أصبحت سماء المعركة مكشوفة أمام العدو.

ويضيف حجازي في روايته: "لم يكن سلاح المشاة مستعداً أيضاً، فقد تكوّن على عَجَل قبل أسبوعين من بدء المعركة. يقول السارِد عن نفسه "استُدعيت مع زملائي لخدمة الاحتياط في التاسع عشر من مايو". ويقول عن جندي آخر هو أحمد الزرقا تاجر الخضر، والذي قتله الإسرائيليون في أول يوم من أيام الحرب "أخذوه فجأة من السوق من دون أن يتمكّن من الاتصال بأهله".

وتشرح الرواية سوء التخطيط الذي قاد إلى الهزيمة، فهو يُطلعنا على إعداد العتاد وتجهيزه للحرب، إلا أنه لم تُجهز الخطط الكفيلة بمواجهة العدو في إعدادنا للحرب. "كان هناك قطار لا يقلّ عدد عرباته عن الـ 40 يقف في دوران محطة الأبطال، محمّلاً بالقنابل وذخيرة الدبابات والرشاشات، نقرته مدافع الدبابات الإسرائيلية فتحوّل بعد دقائق إلى جهنّم حمراء، وتطاير مقذوف الطلقات إلى مواقعنا القريبة".".

يلمح حجازي إلى الإعلام المصري وأسلوب أحمد سعيد الوَهْمي في توصيف قوّة الجيش المصري التي تجعل الجنود يستبعدون وقوع الحرب مع إسرائيل، بقوله: "كنا ننتهي في كل مرة إلى أن الحرب مستحيلة الوقوع، نظراً لقدراتنا واستعداداتنا التي نسمع عنها في الإذاعة ونقرأها في الصحف".

يبرز حجازي في روايته "الأسري يقيمون المتاريس" روح التحدّي والمقاومة، من خلال حوار بين الأسرى في "عتليت" وميخا أحد ضباط العدو في معسكر الأسرى حينما أراد أن يحلق رؤوس الأسرى عقاباً لهم.

بعد مشادّة كلامية رضخ ميخا على مضض، وهو يقول: أنتم يا جماعة نسيتم أنكم سجناء أسرى...
أجبناه وعجبه يزداد: نحن لسنا أسرى يا ميخا .. نحن مقدّمة للجيش المصري في عتليت.

توفي فؤاد حجازي بعد معاناة مع المرض قبل حوالي شهرين يوم 15 شباط/ فبراير 2019 في القاهرة. 

 

اخترنا لك