الطرود
ما هي "إمبراطورية العلامات"؟ وما هي الفروق بين الثقافتين الشرقية والغربية؟
من هو رولان بارث؟
تقديم وترجمة عبد الرحيم نور الدين:
رولان بارث (1915-1980)، الذي يقول عنه أومبرتو إيكو إنه "ينتمي إلى فئة المعلمين الذين يقضون حياتهم في بناء النماذج النظرية والتجريبية"، لم يتوقّف طيلة حياته عن مُقارَبة موضوعاتٍ مختلفةٍ وبطُرُقٍ منهجيةٍ مُتعدّدةٍ، مانِحاً الباحثين والدَارسين مجموعة من الطُرُق والأدوات والمفاهيم والنماذج تمكّنهم من تناول أنساق العلامات المُحيطة بهم. إنه الأستاذ الذي ترك ما يُناهِز خمسة آلاف صفحة توزَّعت على كُتبٍ عدَّة، ترجم الكثير منها إلى اللغة العربية، ومنها: "أسطوريات"، و"درجة الصفر في الكتابة"، و"لذّة النصّ"، و"الغرفة المُضيئة"، و"شَذَرات من خطاب عاشِق"، و"س/ز"، و"نقد وحقيقة"، و "إمبراطورية العلامات" إلخ.
"إمبراطورية العلامات" (الذي اخترنا منه النصّ المُتَرجَم هنا) عبارة عن دفاتر مُستكْشِف زار اليابان، وحاول الكشف عن الفروق الكثيرة التي تُباعِد بين الثقافتين الشرقية والغربية. وإذا كان أستاذ عِلم العلامات الفرنسي قد استعان بالماركسية والتحليل النفسي واللسانيات في أبحاثه، إلا أنه حاول في هذا المؤلَّف التخلّص من هذه التخصّصات المَعرفية لقراءة وتحليل اليابان كنصٍّ مفتوح، وبكيفيةٍ حرّة، بعيداً عن أسلوب المقال البَحثي الصارِم.
يقول بارث في تعريفه بالكتاب: "لماذا اليابان؟ لأنه بلد الكتابة: من كل البلدان التي أُتيحَت للكاتب زيارتها، اليابان هو البلد الذي صادف فيه اشتغال العلامة الأقرب من قناعاته واستيهاماته، أو إذا فضّلنا، الأكثر بُعداً عن القَرَف والتهيّجات وأشكال الرفض التي تُثيرها فيه السيميوقراطية (2) الغربية. العلامة اليابانية قوية...العلامة اليابانية فارِغة: مدلولها يهرب، لا إله، لا حقيقة، لا أخلاق في عُمق هذه الدوال التي تسود من دون عوض. وبالأخصّ، فالخاصيّة العُليا لهذه العلامة، ونُبُل تأكيدها والأناقة الشبقيّة التي تُرسَم بها، مدرجون في كل مكان، في الأشياء وفي التصرّفات الأكثر عبَثيّة، تلك التي نُبعدها عادة إلى دائرة التفاهة أو السوقية. لن نبحث إذن عن محل العلامة في مجالاتها المؤسَّساتية: لن يتعلَّق الأمر هنا لا بفن، ولا بفلكلور، ولا حتى بــ "حضارة"...سيتعلَّق الأمر بالمدينة، بالدكان، بالمسرح، باللباقة، بالحدائق، بالعُنف؛ سيتعلَّق الأمر ببعض الحركات، ببعض الأطعمة، ببعض القصائد؛ سيتعلَّق الأمر بالوجوه، بالأعين وبالفُرش التي بها يكتب كل هذا لكنه لا يرسم".
إذا كانت باقات الزهر، المواضيع، الأشجار، الوجوه، الحدائق، والنصوص، إذا كانت الأشياء والأساليب اليابانية تبدو لنا صغيرة (تُمجِّد ميثولوجيا الغرب ما هو كبير وفسيح وعريض ومفتوح)، فليس بسبب قدّها، بل لأن كل موضوع، وكل حركة، حتى الأكثر حرية، والأكثر تحرّكاً، يبدو مؤطّراً. لا تأتي المُنَمْنَمة (3) من القدّ، وإنما من صنفٍ من الدقّة التي يستعملها الشيء لتحديد ذاته والتوقّف والانتهاء.
لا تشتمل هذه الدقّة على أية خاصيّة معقولة أو أخلاقية: ليس الشيء نقيّاً بكيفية طهرانية (توخّياً للنظافة، أو الصراحة أو الموضوعية)، بل بالأحرى بتكملة هلسية (مُماثِلة للرؤية المُتحَدِّرة من الحشيش، بحسب قول بودلير) أو بقطع ينزع عن الشيء قنزعة المعنى ويزيل عن حضوره، وعن موقعه في العالم، كل مواربة.
مع ذلك فهذا الإطار غير مرئي: إن الشيء الياباني ليس مُحاطاً، وليس مُزخْرَفاً؛ إنه غير مكوَّن من نطاقٍ قوي، من رسم، قد يأتي لملئه اللون، والظلّ، واللمسة؛ حوله، يوجد: لا شيء، فضاء فارِغ يجعله كامِداً (وبالتالي فهو أمام أعيننا: مُختَزل، منقوص، صغير).
يمكن القول إن الشيء يعاكس، بكيفية غير متوقّعة ومُنعكسة في الآن ذاته، الفضاء الذي يتموقع فيه دوماً. على سبيل المثال: تحتفظ الغرفة بحدودٍ مكتوبة، إنها حصائر الأرض، والنوافذ المُسطّحة، والحواجز المشدودة بِعِيدان (صورة خالِصة عن السطح)، التي لا نُميِّز أبوابها التي تعمل بمزلقات؛ كل شيء هنا عبارة عن خط، كما لو كانت الغرفة مكتوبة بحركة فرشاة واحدة. والحال أن هذه الصرامة، بترتيب ثانٍ، هي بدورها مُعاكِسة: الحواجز هشَّة وقابِلة للشق، الجُدران تنزلق، الأثاث قابل للسحب، حتى أننا نعثر في الحُجرة اليابانية على تلك "النزوة" (ولا سيما نزوة اللباس) التي بفضلها يعاكس كل ياباني – من دون أن يتعب أو يلجأ إلى التعبير المسرحي لإسقاطها - امتثالية إطاره. أو مجدّداً: في باقة أزهار يابانية، مبنية بشكلٍ صارمٍ (بحسب لغة فلسفة الجمال الغربية)، ومهما كانت نوايا هذا البِناء الرمزية، المُعلَنة في كل دليلٍ يخصّ اليابان، وفي كل كتابٍ فني حول الإيكيبانا(4)، فإن ما هو منتج، هو دوران الهواء، والتي ليست الأزهار، والأوراق، والأغصان (ألفاظ نباتية جداً) باختصار، سوى حواجزه، أروقته، ممراته المُتعَرِّجة، المرسومة بدقّة وفق فكرة ندرة، نفصلها نحن عن الطبيعة، كما لو أن الوِفرة هي الوحيدة التي تُبرهِن على ما هو طبيعي؛ لِبَاقة الأزهار اليابانية حجم؛ تحفة فنية مجهولة، على المنوال الذي كان يحلم به "فرينهوفير"، بطل بالزاك، الذي كان يريد أن يكون بالإمكان المرور خلف الشخصية المرسومة، وبوسع المرء التقدّم بجسمه في فجوة أغصانها، وفي فتحات قوامها، ليس بغرض قراءتها (قراءة رمزيّتها) وإنما مُعاوَدة مسار اليد التي كتبتها: كتابة حقيقية، ما دامت تنتج حجماً، وما دامت، عبر رفضها أن تكون القراءة مُجرَّد فكّ بسيط لرسالةٍ ما (حتى لو كانت رمزية للغاية)، تسمحُ له بإعادة خط عمله مُجدّداً. أو أخيراً (وبالخصوص): من دون حتى اعتبار شعارية لعبة العلب اليابانية المعروفة، كل واحدة بداخل الأخرى وصولاً إلى الفراغ، يمكن مُسبقاً أن نرى في أيّ طرد ياباني صغير تأمّلاً دلالياً حقيقياً. هندسي، مرسوم بشكلٍ صارمٍ، غير أنه دائماً ما يكون موقَّعاً في حيّز ما بِطيّة، بعقدة، لا مُتماثلتين، بالعناية، بتقنية الإنجاز عينها، تركيب "الكارتون"، الخشب، الورق، الأشرطة، لم يعد أكسسوار[التابع] الشيء المنقول العابِر، بل أصبح هو ذاته موضوعاً؛ الغلاف، في ذاته، مُكرَّس كشيءٍ ثمينٍ، وإن كان مجانياً؛ الطرد هو فكرة؛ مثلما هي، في مجلة بورنوغرافية غير واضحة الطبيعة، صورة شاب ياباني عار، مربوط بإحكامٍ شديدٍ مثل سجق: إن القصد السادي (معلن هنا أكثر مما هو مُتحقّق) مُمتّص بشكلٍ ساذِج - أو بشكلٍ تهكّمي- في ممارسة، ليست سلبية، وإنما ممارسة فن أقصى: فن الطرد، فن الحزم بالحبال.
غير أن هذا الغلاف، بإتقانه ذاته، كغلافٍ مُتكرِّرٍ في الغالب (لا ننتهي من تفكيك الطرد)، يؤخّر اكتشاف الشيء الذي يحتويه - والذي هو غالباً من دون أهمية، إذ من اختصاص الطرد الياباني تحديداً أن تكون تفاهة الشيء مُتفاوِتة مع تَرَف الغلاف: حلوى، قليل من معجون فاصوليا مُحلّى، "تذكار" سوقي (للأسف، اليابان بارِع في إنتاجها)، مُعبّآن بنفس القدر من البَذْخِ الذي تغلّف به مجوهرة ما.
باختصار، يبدو أن العلبة هي موضوع الهدية وليس ما تحتويه: جموع من تلاميذ مدرسة إبتدائية، بعد نزهة يوم واحد، يحضرون لآبائهم طرداً جميلاً يحتوي شيئاً ما، كما لو أنهم سافروا إلى مكانٍ بعيدٍ وتوفَّرت لهم فرصة ممارسة جماعية لمتعة الطرد.
هكذا تقوم العلبة بلعبة الرمز: كغلافٍ، ستار، قناع، تتحدَّد قيمتها بما تخفيه، وتحميه، ومع ذلك تشير إليه: إنها تخدع، إذا فهمنا بطِيبِ خاطرٍ هذه العبارة بمعناها المُزدوِج، المالي النقدي والسيكولوجي؛ لكن ذلك نفسه الذي تحتويه وتدلّ عليه، هو لزمنٍ طويلٍ مؤجَّل إلى ما بعد، كما لو أن وظيفة الطرد لم تكن هي الحفاظ في المكان بل التأجيل في الزمان؛ يبدو أن استثمار عمل الصُنع (الإنجاز) يتمُّ في الغلاف، وبهذه الطريقة ذاتها يفقد الموضوع وجوده، ويصير سراباً: من غلافٍ إلى آخر، يهرب المدلول، وعندما نُمسِك به أخيراً (دائماً ما يوجد شيء ما في الطرد)، يظهر لنا من دون معنى، هزئياً وبَخْساً: اللذّة، حقل الدال، قد استمتع بها: ليس الطرد فارِغاً بل مُفرَغاً؛ إن العثور على الشيء الموضوع في الطرد أو المدلول الموجود في العلامة، يعني رميه: إن ما يحمله اليابانيون، بطاقةٍ مُنَمِّلة، هي بالجملة علامات فارِغة. ذلك أن في اليابان وِفرة مما يمكن تسميته: وسائل نقل؛ إنها من جميع الأصناف، ومن كل الأشكال، ومن كافة المواد: طرود، جيوب، أجربة، حقائب، أثواب (الفوجو fujô: منديل أو وِشاح بدوي يُغلَّف به الشيء)، في الشارع يمتلك كل مواطن صرَّة كيفما كانت، علامة فارِغة، محميّة بقوَّة، منقولة بسرعة، كما لو أن المُنتهي، التأطير، الهالة الهلسية التي تؤسٍّس الموضوع الياباني، كان يهيؤه لتحويلٍ مُعمَّم.
إن ثراء الشيء وعُمق المعنى ليسا مرفودين إلا لقاء سعر خاصية ثلاثية، مفروض على جميع الأشياء المصنوعة: أن تكون هذه الأشياء دقيقة، مُتحرَّكة وفارِغة.
المصدر: Roland Barthes, L'Empire des signes, Flammarion-Skira,"Les Sentiers de la création",1980; p.p.57 à 62.
- السيميوقراطية Sémiocratie، المشكلة ،من الجذر اليوناني "seméion" ، والتي تعني "علامة "، ومن اللاحقة
"Krátos" ، وهي تعني "القوّة التي تكتسبها العلامة ، "إما من خلال التلاعُب ، وإما من خلال منظور فريد للتفسير، في فضاء معيّن. يوظّف رولان بارث هذا المفهوم لفضح هيمنة العلامات في الغرب. - النسخة المصغَّرة.
- الإيكيبانا Ikebana (أو الكادو)، فن تقليدي ياباني يُعنى بتنسيق الزهور وترتيبها.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]