عن حنا مينة.. شيخ الرواية السورية
رواية "الياطر" (أي وسادة السفينة) للأديب حنا مينه تعتبر من أروع وأجمل روايات البحر في الأدب العربي، وهو من أكثر الروائيين العرب الذين كتبوا عن البحر والأجساد التي حرقتها الأملاح والشمس. ويؤكد مينه "أن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى أن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب".
يروي شيخ الرواية السورية حنا مينه "أن الراحل الفيلسوف الدكتور عادل العوا، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، سألني وأنا إلى جانبه في إحدى المناسبات: "دكتور حنا، من أي جامعة تخرّجت؟" أجبته بغير قليل من الجدية "من جامعة الفقر الأسود!" قال: "عجيب، أنا لم أسمع بهذه الجامعة!".
وعندما تزوره في مكتبه الضيق المحاط بصور غوركي، ودستويفسكي، وتشيخوف، وهمنغواي، وستالين، وسيجارته لا تفارق شفتيه، لا يمكن إلا أن تتذكر "راهب الفكر" في رواية "الرباط المقدس" لتوفيق الحكيم الذي كان "يلذ له أن ينفق لحظاته الضائعة في النظر الى كعوب الكتب يقرأ أسماء مؤلفيها الخالدين كأنهم جنود أبطال يستعرضهم بعد النزال، فكان لا يملك نفسه من الصياح في القاعة الساكنة "هؤلاء حركوا العالم، وساروا بالإنسانية، إني أشعر بينهم وأنا في هذه العزلة والركود أن كل شيء من حولي حركة دائم".
ولد حنا مينه في السويدية في لواء اسكندرون عام 1924، لعائلة فقيرة، وعاش طفولته في حي (المستنقع) في إحدى قرى لواء اسكندرون. وبعد ضم اللواء إلى تركيا عام 1939، عاد مع عائلته إلى اللاذقية .
وقد سرد في روايته «المستنقع»، ملامح من طفولته في لواء إسكندرون وما تعرض له من الألم والشقاء والفقر، وهي صورة مشابهة لبؤساء فيكتور هوغو .
وبسبب الفقر، توقف عن الدراسة بعد حصوله علي الابتدائية عام 1936 وهي الشهادة الوحيدة التي حصل عليها.
يقول صاحب "المصابيح الزرق": "كانت أعلى شهادة حزت عليها "السرتفيكا" وبالكاد كان لدي "صندل" أنتعله في الشتاء، فيما أُمضي شهور الصيف حافياً.
اشتغل في مهن كثيرة، من بحّار على المراكب إلى أجير مصلّح دراجات، إلى مربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاّق، إلى صحافي، الى عامل مقهى، وفي ملعب للتنس وفي أحد الحقول. كما باع الجرائد قبل ان يصبح في السابعة عشره من عمره، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة ، إلى روائي، وهنا المحطة قبل الأخيرة.
في إحدى قصصه (الكتابة على الأكياس) يصوّر حنا الظروف الصعبة التي ميّزت طفولته، وكيف جعل منه سوء التغذية صبياً نحيلاً غير قادر على القيام بعمل جسدي شاق، وحين أحس بضرورة مساعدة عائلته المعدمة مادياً، ذهب إلى الميناء، حيث اكتشف عدم قدرته على رفع الأكياس، فشعر بالأسى. وحين برزت حاجة لكتابة بيانات بسيطة على الأكياس اختاره «المعلم» لأنه يتقن الكتابة.
ويذكر في القصة أنه حين التقى «بمعلمه» في دمشق بعد مرور سنين طويلة، وكان بصحبته صديق يعرف كليهما، قال ذلك الصديق للمعلم: إن حنا كاتب معروف اليوم، قال ذلك الرجل البسيط: نعم، أعرف ذلك. لقد بدأ الكتابة عندي، على الأكياس.
استطاع حنا مينه أن يجمع بين السياسة والثقافة، واكتسب حب القراءة في المدرسة عن طريق بعض المجلات مثل مجلة "المكشوف". وكانت قراءاته الأولى هي قراءات أدبية فقرأ قصص "الزير سالم" و"تغريبة بني هلال" و"سيف بن ذي يزن" و"ألف ليلة وليلة" و "طرزان". ففي صالون الحلاقة الذي عمل فيه تعلم صياغة بعض النصوص المدرسية ونظم بعض المقاطع الشعرية. إلا أنه سرعان ما استهوته الصحافة، إذ شرع في مراسلة بعض الصحف في دمشق وبيروت والقاهرة. واصبح شيئاً فشيئاً صحافياً مشهوراً. فكانت مقالاته السياسية التي كتبها حول الصهيونية والإستعمار والإمبريالية شهادة بليغة على إلتزامه السياسي.
كانت قصة «طفلة للبيع» حسبما يصر حنا مينه بمثابة البداية الأدبية. يقول محمد دكروب رئيس تحرير مجلة الطريق في مقال نشره في مجلة العربي الكويتية (تموز/يوليو2008): "قبل 62 عامًا، (عام 1945) نشرت مجلة «الطريق» اللبنانية قصة قصيرة بعنوان له وقعٌ غريب: «طفلة للبيع» موقّعة باسم: حنا مينه (اللاذقية)... وكان في ذلك الحين، في الواحد والعشرين من عمره، يعمل حلاقًا في دكان صغير في حيّ شعبي في مدينة اللاذقية على الساحل السوري.
ويجزم دكروب "أن هذه القصة القصيرة جدًا، هي أول نصّ إبداعي يُنشر للشاب حنا مينه، وأجزم أيضًا أن هذا الشاب لم يكن في تصوّره - آنذاك - أن هذه القصة ستكون نقطة البداية في رحلة إبداعية خصبة للشاب الفقير في ذلك الحيّ الفقير".
انتقل حنا مينه إلى بيروت عام 1946 بحثاً عن عمل. وبعد استقلال سوريا عن فرنسا انتقل للحياة في دمشق وبدأ العمل في جريدة «الإنشاء» الدمشقية ثم أصبح رئيس تحريرها، واستمر في تأليف القصص القصيرة.
ساهم في تأسيس «رابطة الكتّاب السوريين» عام 1951. وكان أيضاً من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب، الذي انطلقت أولى أعماله عام 1969. إلا انه انسحب لاحقاً من عضويته الذي تأسس على أنقاض الرابطة، إثر حادثة فصل أدونيس من الاتحاد، وأصدر بياناً مضاداً لقرار الاتحاد بمشاركة سعد الله ونوس.
كتب باكورة أعماله الروائية "المصابيح الزرقاء" عام 1954 لتكون فاتحة أعمال أدبية بلغ عددها أكثر من أربعين رواية، ولترفعه الى موقع أدبي كروائي عربي كبير منذ وقت مبكر بالرغم من الاعتراضات الفنية التي تعرضت لها الرواية من قبل بعض النقاد.
كانت تلك الرواية إشارة واضحة إلى المستقبل الذى كان ينتظر هذا الروائي، المقتحم بشجاعة ريادية عالم الرواية الصعب. وجاءت تلك الرواية مع رواية عبد الرحمن الشرقاوى «الأرض» التي تعد البداية الحقيقية للرواية المصرية بعد رواية "زينب" لمحمد حسنين هيكل وروايات توفيق الحكيم، التي كانت لا تخلو من عيوب البدايات، لتشكل مرحلة جديدة في الرواية العربية. وبعد أن كان نجيب محفوظ قد خرج من مرحلة الرواية التاريخية الى الواقعية وهو يتأهب لإصدار روايته الكبرى "الثلاثية".
إستفاد حنا مينه في روايته الثانية "الشراع والعاصفة" التي صدرت عام 1966 من العمل في البحر. وقد ضاعت المخطوطة ثلاث مرات، ثم أرسلها من الصين إلى صديقه سعيد حورانية، فتاهت مرّة أخرى في البريد البحري بين شنغهاي وبيروت، لتصل بعد ثلاثة أشهر مبللة، وأُنقذت المخطوطة على يد كوّاء قام بتجفيفها على مهل.
ولعل صاحب "الياطر" (أي وسادة السفينة) التي تعتبر من أروع وأجمل روايات البحر في الأدب العربي، هو من أكثر الروائيين العرب الذين كتبوا عن البحر والأجساد التي حرقتها الأملاح والشمس. وقد منح البحرُ حنا مينة إنجاز ثلاثيته الأولى "المرفأ البعيد" و"حكاية بحار" و"الدقل" وغيرها من الروايات. واللافت أن أدب البحر ازدهر على الساحل السوري فيما لم تعرف مدن الساحل اللبناني أدب البحر.
ويؤكد مينه" أن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى أن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب".
أدى عمله في السياسة إلى الرحيل إلى بيروت مجدداً ثم إلى المجر وفرنسا هرباً من «المباحث السرَّاجية»، ويتذكر حنا النوم تحت الجسور في سويسرا، وأخيراً إقامته في الصين خمس سنوات، التي تمخضت عنها رواية الصين الكبرى في ثلاثية تقع في ألف صفحة بعنوان: «حدث في بياتخو، عروس الموجة السوداء، المغامرة الأخيرة». وهو يرصد واقع الصين في بداية الستينات والثورة الثقافية في بناء الصين الاشتراكية في قمة الاضطراب والنكوص والإقدام والحماس، والخلاف الذي استحكم بين موسكو وبكين.
وكتب مينه رواية "الربيع والخريف" عن «بلاد المجر-هنغارية» وعن الثورة المضادة في المجر عام 1956.
أما في رواية «فوق الجبل وتحت الثلج» فقد كتبها عن بلغاريا، وسبب انهيار بنائها الاشتراكي عام 1990، أما في "المرأة ذات الثوب الأسود" فهو يتحدث عن المجتمعات الغربية (الفرنسية والإنكليزية)، وما تعانيه من آفات ومشكلات اجتماعية مثل الشذوذ الجنسي من خلال شخصيتي مارغريت الفرنسية وسميث الإنكليزي.
أما في «حمامة زرقاء في السحب» فقد كشف عن الديمقراطية المزيفة التي وجدها «جهاد مروان» في كل من حي «سوهو» وحدائق «الهايدبرك» في لندن. وفي «الرجل الذي يكره نفسه» فقد كتب عن سبب انهيار العالم الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وصموده في الصين.
عاد صاحب "عروس الموجة السوداء" إلى الوطن عام 1967 وإحتفت به الصحف السورية بمانشيتات عريضة. فأمضى بضعة شهور في اللاذقية ثم دمشق، حيث عمل في كتابة المسلسلات الإذاعية بالفصحى والعامية، قبل أن يعمل في وزارة الثقافة، وذلك بعد منفى اضطراري دام عشرة أعوام.
اهتم حنا مينه بالقضايا الفكرية والأدبية فأصدر عن ناظم حكمت ثلاثة كتب تناولت قضايا السجن والمرأة والحياة، إلى جانب الثورة في حياته وأدبه، وجاهر بتجلّيات إبداعه وسيرته الذاتية في كتابيه "هواجس حول التجربة الروائية" (1982)، و"كيف حملت القلم" (1986).
وعالج قضايا الكفاح الوطني ومقاومة الاستعمار في مؤلفاته المشتركة مع السيدة الدكتورة نجاح العطار "من يذكر تلك الأيام" (1974)، و"أدب الحرب" (1976)، وبلغ أدب المقاومة ذروته في روايته"المرصد" (1980).
تُرجِمَت روايات مينه إلى سبع عشرة لغة أجنبية، ودرِّسَت رواية "الثلج يأتي من النافذة" في جامعة السوربون في فرنسا لطلاب القسم العربي، وترجمت منظمة اليونسكو "الشمس في يوم غائم" إلى الفرنسية، وتُرجِمَتها إلى الإنكليزية في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة الأميركية، وتُرجِمَت "الياطر" إلى الفرنسية والإسبانية والرومانية، و"بقايا صور" تُرجِمَت إلى الصينية والإنكليزية في واشنطن والفارسية والألمانية، و«المستنقع» تُرجِمَت إلى الفارسية، و"حكاية بحار" إلى الروسية.
حاز "شيخ الرواية البحرية" على عدة جوائز: جائزة المجلس الأعلى للثقافة والآداب والعلوم بدمشق عن رواية «الشراع والعاصفة» (1968)، جائزة سلطان العويس – الدورة الأولى على عطائه الروائي (1991)، جائزة المجلس الثقافي لجنوب إيطاليا عن رواية «الشراع والعاصفة» كأفضل رواية ترجمت إلى الإيطالية (1993)، جائزة الكاتب العربي التي منحها له اتحاد الكتاب المصريين بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على تأسيسه اعترافاً بموقعه المميز على خريطة الرواية العربية، وجائزة محمد زفزاف للرواية العربية.
وفي العام 2002 منحه الرئيس بشار الأسد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة بتاريخ 28 مايو أيار 2002، وهو أعلى وسام يحصل عليه مواطن مدني سوري.
رحل حنا مينــه، الذي رشحه نجيب مجفوظ لجائزة نوبل، وهو الذي أُطلقت عليه عشرات الألقاب مثل "شيخ الرواية السورية" أو "بلزاك الرواية الســـورية" أو "زوربا الروائيين العرب"، موقناً بأنه من الكتّاب القلائل الذين يصعب أن يكون لهم مثيل أو بديل.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]